إسماعيل جبريل تيسو:
وتأبى وزارة الخارجية إلا وأن تُصيبني بحُمَّى الكتابة لأُسطّر في حضرتها من المقالات مثنى وثلاثَ ورباع، جراء ما تفرضه من وقائع وما تصنعه من أحداث، كان آخرها إعفاء وكيل وزارة الخارجية السفير دفع الله الحاج علي، الذي كان ملء السمع والبصر والفؤاد طوال فترة البيات الشتوي الاختياري للسيد وزير الخارجية المكلف السفير علي الصادق، والذي ظل زهاء شهرين كاملين عقب اندلاع تمرد ميليشيا الدعم السريع خارج التغطية، وحتي بعد عودته لم يواكب الأحداث ويصدع بلسان يحكي حال المعارك والحرب التي اندلعت.
قطعاً كان قرار إعفاء السفير دفع الله الحاج علي مفاجئاً لوزارة الخارجية نفسها، قبل أن يُدهِش منسوبيها من العارفين ببواطن السلك الدبلوماسي والممسكين بخيوط اللعبة السياسية ودهاليزها وتحدياتها وانعكاساتها على مشهد السودان وراهنه الذي ظل يعاني لأكثر من ثمانية أشهر حسوما، وتبدو المفاجأة منطقية على خلفية الجهود الكبيرة والمتعاظمة التي ظل يبذلها السفير دفع الله الحاج علي، حينما كان مبعوثاً للسيد رئيس المجلس الانتقالي وهو يرتكز إلى خبرة عملية امتدّت لأكثر من ٤٥ عاماً.
لقد برع السفير دفع الله الحاج علي في المنافحة والمقارعة بالحجة توصيلاً لرؤية السودان وعكساً لموقف الحكومة السودانية من حرب الخامس عشر من أبريل، حيث صال وجال وطرق أبواب العديد من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، رسولاً بالهدى وقول الحق، حتى نجح في تغيير الكثير من ملامح القسوة التي كانت ترتسم على وجوه بعض الدول والمنظمات تجاه موقف الحكومة، وقناعتي أن الإدانات الاخيرة لميليشيا الدعم السريع من قبل الأمم المتحدة ومنظماتها الحقوقية والإنسانية، لم تخرج إلا بفضل المرافعات المنطقية التي تميزت بقوة البيان وفصاحة اللسان والتي صدع بها سعادة السفير دفع الله الحاج علي، الذي نال جزاء سنمار، وكوفيء بإعفائه بدلاً من ترفيعه المستحق.
قطعاً بخروج السفير دفع الله الحاج علي عبر الباب الكبير لوزارة الخارجية، تكون القيادة العليا للدولة قد فقأت عين الدبلوماسية السودانية وأصابتها في مقتل، ذلك أن السفير دفع الله يعتصم بحبل ستةٍ وأربعين عاماً من الخبرة والمهنية في مجال الدبلوماسية اكتسبها من عمله داخل وزارة الخارجية منذ أن كان سكرتيراً ثالثاً وحتى وصل إلى منصب وكيل وزارة الخارجية، مروراً بعدد من المحطات المهمة في فرنسا وباكستان، ودبلوماسياً في البعثة السودانية بنيوريورك، ثم مندوباً دائماً للسودان في الأمم المتحدة لخمس سنوات.
وظل السفير دفع الله الحاج علي، طوال ستٍ وأربعين سنة، مثالاً يحتذى في حسن الهندام وجمال الخلق والانضباط والسلوك القويم، المستند على كارزيما مقنعة تتزين بلغة عربية وأخرى إنجليزية وثالثة فرنسية، تتنافس جميعها في مضمار الخطابة، فتبزُّ بعضُها بعضا، ليتميز السفير عن أقرانه في كتابة عناوين جديدة لسِفر الدبلوماسية القديم، وتلوينه بمعاني حديثه في التعبير عن مصالح السودان ونقل وجهة نظر الحكومة بحجة ودقة وموضوعية يفتقدها حتى الوزراء، ليصبح السفير دفع الله طاقة خلاّقة وباينة كالجوار المنشأت في البحر، علماً يرفرف في سماء الدبلوماسية محلياً وإقليمياً ودوليا.
قطعاً من يتهمون السفير دفع الله الحاج علي بالانتماء إلى الفلول والكيزان وارتداء جلباب الحركة الإسلامية، فإن هذا القول مردود عليهم، ذلك أن الإنقاذ عندما جاءات كان السفير دفع الله الحاج علي سابقاً لها بنحو سبعة عشر عاماً قضاها في بلاط الدبلوماسية، وطوال فترة الإنقاذ كان مثالاً للدبلوماسي الملتزم الذي يُعلي من قيمة الوطن ويتعاطى بانضباط ومهنية وحِرفية وانفتاح وحضور لافت، وهي مقومات أفلت بها من سيف الإنقاذ الذي كان مسلَّطاً على رقاب الكثير من العاملين في الخدمة المدنية بفرية الصالح العام.
ومثلما تحتاج معركة الكرامة الوطنية التي يخوضها السودان حالياً إلى جنود مقاتلين وأشاوس، فهي تحتاج إلى دبلوماسيين حِرَفيين مسلحين بالخبرات العملية والعلمية مثل السفير دفع الله الحاج علي، الذي ترجّل عن صهوة جواد وكيل وزارة الخارجية تاركاً وراءه أكثر من علامة استفهام وتعجب؟! فما أحوج قيادة الوزارة لمثل هذا الرجل، خاصة في ظل الإخفاقات التي ظلت تلازم الوزارة طوال سنتين فشلت خلالهما وزارة الخارجية في استعادة عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، وعطّلت قدرات العشرات من أبناء الوطن من الدبلوماسيين النابهين والذين ما فتئوا يهومون على وجوههم دون أن تستفيد البلاد ووزارة الخارجية من قدراتهم!
قطعاً تجتهد القيادة العليا للدولة من أجل بسط يد الإصلاحات وإحداث التغييرات بما تواكب مطلوبات المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، فمال هذه اليد ترتجف عندما تمرُّ من فوق فضاءات وزارة الخارجية التي ذكّرنا في أكثر من مرة بأهميتها كوزارة سيادية تُعوّل عليها البلاد كثيراً في التبشير بملامح سودان ما بعد الحرب، فكيف يتم ذلك وهذه الوزارة المهمة تعاني من تخبط واضح، ولك أن تعلم أخي القاريء الكريم أنه توجد 35 سفارة سودانية في الخارج من غير سفير، وأن من بين هذه السفارات محطات تمثل أهمية قصوى للسودان مثل أديس أبابا ( مقر الاتحاد الأفريقي)، والقاهرة ( مقر جامعة الدول العربية)، والرياض، ولندن، والبرازيل، وغيرها، فضلاً عن الخلل الإداري والتمثيلي البيّن، مثل مغادرة سفير مخضرم بقدرات دفع الله الحاج علي! فكيف يستقيم الظلُّ والعودُ أعوج؟.