مقالات

عسكوري يكتب: هنا أم درمان

والطائرة الانتونف تهبط في قاعدة وادي سيدنا ساد صمت نبيل داخلها؛ فهذه اول مجموعة من القادة السياسيين ولجان المقاومة والصحفيين تصل للقاعدة وتقابل الوالي وقادة القوات المسلحة الميدانيين بعد أن ظلوا يقاتلون لقرابة العام دون تواصل مباشر مع القوى السياسية أو الصحافة والإعلام أو المجتمع المدني العريض.

انفعالات واختلاجات وحزن وفرح بـ(العودة) ولقاء أبطال القوات المسلحة قادة وضباط صف وجنود والمستنفرين الذين يصدق عليهم (العلموا الجبل الثبات). لقد قاتلوا دفاعا عن البلاد وكرامتها باظافرهم واسنانهم و بالشئ و اللاشئ وقدموا من التضحيات ما أذهل العالم.

وللأسف لم تجد كل تلك الجسارة والتضحيات حظها المستحق من الإعلام هذا قصور بائن من الساسة ومن الصحافة نستحق عليه التوبيخ بل ربما الإدانة. فهنالك رجال صمدوا قاتلوا ويقاتلون دوننا ونحن (نتلكلك) ونجرر ارجلنا من فندق الي فندق ومن مقهي الى أخر والبعض من طائرة الي فندق ومن ورشة الي أخري ولا (يورشون) الا سخافاتهم وبؤسهم!
كان الصمت داخل الطائرة ابلغ تعبير عن الحزن علي ما كابده وعاناه المواطنون من تدوين المليشيا و التشريد والرعب الذى خلفته ممارساتها في الجميع وأسي وألم موجع علي الشهداء من جنود الجيش وضباطه ومن المستنفرين الذين قاتلوا ببسالة غير منظورة ورووا ارضنا الطاهرة بدمائهم الذكية؛ و يا لحزني هؤلاء وحدهم لن يكونوا بيننا عندما نكمل سحق المليشيا ونحتفل بالنصر! لقد علمونا كيف يكون الاستبسال والدفاع عن الارض والعرض وفتحوا بدمائهم الطريق؛ فالحرية والأرض والوطن مهرهم الدماء و المهج والأرواح ؛ قليلون بيننا من يدفعون ذلك لنأتي نحن ونلتقط الصور التذكارية وندبج المقالات.

اولئك وحدهم من يحق لهم الحديث عن الوطن ولكنها تصاريف الله في خلقه؛ فمن يضحي ويدفع الثمن ـ ultimate sacrifice ـ لا يحضر احتفال النصر..! إنهم فتية آمنوا بربهم ووطنهم وشعبهم وقدموا ارواحهم فداء لنا ليبقي الوطن. دمائهم الذكية الطاهرة هي التي تمكننا من الحديث عن وطن اسمه السودان؛ إذ بدون تلك الدماء الذكية الطاهرة لأصبحنا شعثا تتخطفنا الأمم ولضربت علينا الذلة والمسكنة وذهبت ريحنا.

إننا جميعا مدينون لأؤلئك الفتية والرجال ـ نحن وابنائنا واحفادنا بل ربما الي يوم يبعثون ـ الذين ما توانوا وما وهنوا ولا ترددوا وتدافعوا كالنسور الكواسر دفاعا عن الوطن وعن العرض و الأرض. مايؤلمنى انني لست أحدهم وسأموت للاسف (الميتة اب رمادا شح)؛ هنا أنا ناقل فقط ـ بعد ان أستمعت لقصص البطولة والجسارة و الصمود الخرافي ـ

ومن أراد ان يسمع التضحية وكيف حدثت وكيف كانت و تكون أنصحة بلقاء رفاقهم الذين وارووهم الثري واقسموا عند قبورهم علي مواصلة الطريق مهما كانت التكاليف والتضحيات!
بمجرد نزولي من الطائرة انتابني زهو وفخر بنفسي وبكل مستقبيلنا والي الولاية وقادة الوحدات و التشكيلات المختلفة الذين يديرون المعارك من منطقة وادي سيدنا العسكرية. كانت المشاعر جياشة وحبس الجميع دموعهم؛ كنا جميعا في حوجة لللقاء؛ لقاء اخوة اشقاء وآباء وابناء فرقت بينهم المليشيا بحرب ضروس حاولت بها طردنا جميعا من ارضنا ونهب كل ما عندنا و استئصال وجودنا من بين شعوب الأرض؛ ولكن هيهات..! لحظتها رددت في داخلي: “ها نحن قد عدنا يا حميدتي”!

صدقوني، و لأول مرة ـ وبعد ان شاهدت حجم الخراب الذي فعلته هذه المليشيا في ام درمان ـ تفهمت سلوك ابو العباس السفاح في نبش قبور اعدائه من بني أمية وحرق رفاتهم؛ ولن استغرب علي الإطلاق ان قام بعض الناس لاحقا بذات الفعل؛ فما ارتكبه هولاء الشياطين في مجتمعنا ودولتنا لا أجد له مفردات في قاموسي؛ تكفي لوصفه؛ و لا أعتقد ان هنالك اي لغة بها من المفردات لوصف ما فعله هولاء الشياطين! بل اعتقد جازما ان الشيطان نفسه قد تعوز وهرب من افعالهم..! لقد كان السيد الوالي محقا وهو يتكلم بحزن واسي وصدمة:” اذهبوا وشاهدوا بأنفسكم ما فعله هؤلاء بام درمان”! من لا يصدقني عليه أن ينتظر حتي يعود الناس لديارهم ليروا و يقفوا علي حقيقة ما حدث!

أعرف مباني الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون جيدا وقد زرتها مرارا مستضافا في برامج تلفزيونية أو إذاعية.
عندما دخلنا الي باحة الهيئة من الناحية الشمالية حيينا بعض الجنود الذين كانوا قد شاركوا في تحريرها وكان الغضب والحزن باديان علي وجوههما. وعندما استفسرت احدهم عن حاله ” كيف”! مد كفه اليمين ببط شديد نحو المبني المحروق ونظر الي الإتجاه المعاكس في إطراق شديد يغالب دموعه…! وفهمت حديثه:” اذهب لتري بنفسك”!
لن اكتب عن حجم الخراب الذي شاهدته فببساطة ليست لدي مقدرات او ذخيرة لغوية لوصف ذلك الخراب وحجمه وفظاعته؛ وقد ذكر لي احد الجنود أن هؤلاء الشياطين قاموا باحراق المبني بعد ان تأكدوا انهم مهزومين لا محالة. وذكر لي آخر ان هنالك العديد من المحتجزين الذين ماتوا صبرا (جوعا وعطشا) ولم يسمح لنا بمشاهدة مكانهم!

نصيحتي للأصدقاء والزملاء وكل العاملين بالهيئة ـ خاصة رقيقي المشاعر ـ ان لا يذهبوا للهيئة (ما تمشوا ناحيتها نهائي) حفاظا على حياتكم من هول الصدمة!
ما يمكن ان اقوله للدولة وللسيد الوالي وللعالمين بالهيئة لقد اصبح من المحتوم إزالة ما تبقي من هياكل اسمنتية ومن ثم تخطيط وتشييد مقر جديد للهيئة وعلي الدولة وإدارتها و العالمين بها شحذ همتهم وتوحيد جهودهم وتكثيف اتصالاتهم لجمع الأموال لبناء مقر جديد لها وعلي المهندسين المختصين وضع يدهم مع الإعلاميين وادارتها لاكمال ذلك العمل؛ وعلي القادرين من رجال الأعمال المساهمة بسخاء في المشروع.

أكثر من ذلك يجب علي كل السودانيين ابتدار المشاريع والافكار لجمع التبرعات والأموال لتحقيق مشروع اعادة البناء حتي نثبت لهولاء الشياطين ومن يقف خلفهم ان قدرتنا علي البناء اكبر بكثير من قدرتهم علي الخراب.

بعد ان شاهدت ما وقع في الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون تأكدت تماما ان الهدف من الحرب كان هدم الدولة تماما ومحوها من الوجود فالهيئة ـ دون شك ـ هي ذاكرة الأمة ولذلك كان امر تدميرها تماما هدفا مركزيا للحرب.
لم نستطع الذهاب لشارع النيل لمشاهدة المبني من الجهة الجنوبية فما يزال دوي اصوات الإنفجارت والطلقات يسمع بقوة من ناحية توتي و اعاد لنا ذكري ايام الحرب الأولي. لكل لذلك هذا تقييم لما شاهدناه بالداخل فقط بعد ان مُنعنا من الذهاب لشارع النيل لخطورة الأمر؛ وإن كنت اتوقع ان تكون الواجهة النيلية للهيئة قد تعرضت لنفس التخريب.

خرجنا من البوابة الشرقية وكان عنفوان المعركة بائنا علي الأرض والأسفلت والبوابة؛ سألت أحد الضباط كان يسير بجانبي: ” يبدوا ان المكان شهد معركة حامية”.. فقال: نعم …هنا كانت الواقعة التي حسمت المعركة.. ثم أطرق قليلا في صمت وحزن وقال : “هنا في هذا المكان استشهد عدد من الجنود”! وانتابتني نوبة من الحزن وخجلت من نفسي وخالجني احساس انني ربما قد وطأت علي جزءً من دمائهم الذكية..! وقلت في داخلي البعض يقدم روحه مهرا لكرامتنا و نأتي نحن لإلتقاط الصور و تكرار احاديثنا اللزجة التي لا تنته..!
تمنيت ان يتبن العاملون بالهيئة ـ بعد عودتهاـ بناء صرح ضخم تنحت عليه اسماء اولئك الجنود والفرسان و الشبابذ الذين استشهدوا عند بوابة هيئتهم ودحروا المليشيا واخرجوها عنوة وحمرة عين!
في كلمتة قال الفريق ياسر العطاء: “لا نود منكم الآن تعازي في الشهداء وهم كثر..! أحزنوا في دواخلكم و ادعوا لهم… لأننا سنقيم سرادق العزاء لجميع الشهداء في “اردمتا” بعد ان نطهر بلادنا من المليشيا… اما الآن فاحزنوا في دواخلكم فقط وادعوا لأبنائكم بقبول شهادتهم!
نصيحتي للإخوة والأخوات الصحفيين خارج السودان بضرورة زيارة ام درمان؛ فهنالك الكثير والكثير جدا من البطولات والتضحيات والقصص والمآسي الانسانية والمعاناة التي لا توصف كلها تحتاج الى توثيق قبل أن يطويها النسيان او يستشهد ابطالها او يرحلوا.. تحركوا بصورة عاجلة وثّقوا هذا التاريخ والبطولات التي يعمل البعض لطمسها قبل ان يعرفها الناس.
أخيرأ…أري ضرورة بدء البث من حوش الإذاعة حتي لو من خيمة فهذا النصر يجب ان يتوج ويجب ان يجسد عزمنا وتضحياتنا وكبريائنا وتحدينا لهولاء الشياطين وللذين يقفون خلفهم يستهدفون مجتمعنا وبلادنا.
يجب ان يسمع الشعب ” هنا أم درمان” من داخل ” حوش الإذاعة” تملاء اجواء بلادنا مرة أخري؛ ذلك هو التحدي.. فنحن شعب عصي علي الإنكسار.

ورغم تجاربي الكثيرة في الحياة إلا أن هذه الزيارة السريعة تركت فيني جروحا وحزنا وألما لن يندملوا إلا بنصر مؤزر ودحرا استئصاليا لهؤلاء الشياطين وتجريعهم من ذات الكاس حتي يتجأشوا.. إن لم نفعل ذلك تأكدوا ان دماء اولئك الشهداء والأبطال قد ذهبت هدرا وهو أمر دونه خرت القتاد!

“هنا ام درمان إذاعة  جمهورية السودان”
هذه الأرض لنا

علي عسكوري

بورتسودان
16 مارس 2024

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق