إخلاص نمر:
مسحت (فاطمة) دموعها وانتبهت إلى الطريق الطويل و الشاق الذي ينتظرها، لأن الرحلة ستطول وفق قولها، أكثر من دمعة انحدرت على خدها، ونظرة عجلى على حقلها الصغير، دفعتها أن تتمتم بكلمات هادئة، لم يسمعها أحد، التفتت يمنة ويسرة، وكان السؤال على شفتيها، لماذا هذه الحرب؟.
تابعت فاطمة خيط الذكريات عن الحرب، التي بدأت في الخامس عشر من أبريل، في العاصمة الخرطوم، لكنها تمددت إلى الولايات والقرى والفرقان، ماجعلها تقارب صفة (شاملة)، لتقضي على الأخضر واليابس ومازالت، فالحرب كما يعرفها الفيلسوف والعالم الهولندي هوغو هويتروس، بأنها حالة نزاع بين الأحزاب، بينما يصفها الكاتب الفرنسي دينيس ديديروت، بأنها مرض شديد يصيب الجماعات السياسية، وطرح غيرهم تعريفات مختلفة وأوصاف للحرب، لكن الحرب عند (فاطمة)، ظلت علامة استفهام كبيرة مطبوعة في ذاكرتها، وفي عقلها الباطني، بلا إجابة، ففي رحلة هروبها من زخات الرصاص، كانت تحمل ذكرياتها القديمة وسلامة مجتمعها، قبل انطلاق أول رصاصة في طريق الحرب، في الخامس عشر من أبريل من العام 2023، والتي خلفت أسوأ مستويات الجوع في السودان، وويلات الموت والدمار والنزوح والاغتصاب.
الجوع..
في آخر إحصائية للأمم المتحدة، في السابع والعشرين من يونيو 2024، جاء فيها (بعد أربعة عشر شهرا من الصراع، يواجه السودان أسوأ مستويات انعدام الأمن الغذائي ،حيث من المتوقع أن يواجه أكثر من نصف السكان، أي 25.6 مليون شخص، مستوى الأزمة أو ظروفا أسوأ ،خلال الفترة من يونيو وحتى سبتمبر 2024).
أعدت التقرير مجموعة من الوكالات الإنسانية، التي ذكرت أيضا، أنه خلال الفترة نفسها يواجه 755.000 شخص، في 10 ولايات بما فيها دارفور الكبرى الخمس، وولايات جنوب وشمال كردفان والنيل الأزرق والجزيرة والخرطوم، مستوى الكارثة أو المجاعة، بينما يواجه 8.5 ملايين شخص، أي 18% من السكان حالة الطوارىء.
نزوح..
ووفق ذات التقرير، فإن السودان يواجه أسوأ أزمة نزوح داخلي في العالم، حيث بلغ عدد النازحين 10.1ملايين نازح، ولجأ 2.2 مليون شخص إلى دول الجوار، بحثا عن الأمان والمساعدات الإنسانية.
طريق النزوح لم يكن آمنا للوصول إلى أقرب نقطة أو قرية أو مدينة، وهذا ماجعل (فاطمة) تستعيد حادثة جارتها، التي خرجت تستتر بالظلام قبل أكثر من شهر، لكن حظها العاثر، أوقعها في براثن من اعتدى عليها، وانتهك شرفها، وتركها في بحر من الدماء، في منطقة خالية من السكان، ايقظت الحادثة في ذهن (فاطمة) سؤالا ملحا، كم يا ترى تم اغتصابهن في طريق النزوح والهروب؟؟
ضد الاغتصاب..
في آخر تقرير صدر من حملة معا ضد الاغتصاب والعنف الجنسي ، وهي حملة تضم مجموعة كبيرة من الجنسين، ذكر التقرير الذي يوثق لحالات الاغتصاب في الفترة من 30 أبريل وحتى 31 مايو 2024، ان هنالك 46 حالة اغتصاب، من بينها رجل و28 طفلة، ففي ولاية شمال دارفور وحدها 27 حالة، وفي الولاية الشمالية 9 حالات، أما ولاية النيل الأبيض 3 حالات.
بهذا التقرير وصل عدد الحالات الموثقة، بواسطة حملة معا ضد الاغتصاب والعنف الجنسي، إلى 423 حالة في الفترة من 15 أبريل 2023 إلى 30 مايو 2024.
أطفال..
استعادت ( فاطمة) شريطا مخبوءا من ذكريات أخرى محببة إلى نفسها، طفل اختها (سعاد) الذي بلغ سبع سنوات اليوم، يكتب (احمد) ويرسم يحب التلوين، ودائما ما يصنع أشكالا من الحيوانات الصغيرة التي يحبها، في إجازة المدرسة، و يقدمها لأصدقائه الصغار، وفجأة يقفز السؤال على لسان ( فاطمة) أين أحمد الآن ؟؟ وتجيب وحدها على سؤالها (أحمد في إحدى المعسكرات التي تجسد المعاناة الحقيقية للنازحين، غياب الأمن وعدم كفاية الغذاء وربما إنعدامه تماما وتفشي الأمراض وعدم التعليم).
وهنا كان تحذير وكالات أممية من تدهور الوضع التغذوي للأطفال والأمهات، وكانت دعوتها شاملة لحماية جيل كامل من سوء التغذية والمرض والموت.
وقد أظهر التحليل الذي أجرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، أن الأعمال العدائية الآن في السودان، تفاقم أسباب سوء التغذية بجانب عدم الحصول على المياه المأمونة، وخدمات الصرف الصحي، وخطر الأمراض المعدية.
معاناة..
وفي زيارتها لمدينة بورتسودان، قالت المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف)، (إن الحرب تعمق أزمة الأطفال، فبعد مرور أكثر من عام على هذه الحرب الوحشية، يتواصل ازدياد الألم والمعاناة للأطفال في السودان، بين خطوط المواجهات أو مغادرة المنازل، ويشمل هذا الوضع أكبر أزمة لتهجير الأطفال في العالم، الذين يتحملون وطأتها الأشد) واردفت (تخلق الحرب مزيجا فتاكا من التهجير والأمراض والجوع، ما يشكل وضعا مواتيا تماما لنشوء مجاعة، ناجمة عن النزاع، وخسائر كارثية، في أرواح الأطفال، وبما أن 17مليون طفل غير ملتحقين بالمدارس حاليا، فقد تتسبب الحرب بتأثير على حياة جيل بأكمله من هؤلاء الأطفال).
سلام وسط الدموع..
ورغم أن (فاطمة)، لم يغمض لها جفن تماما منذ عدة أشهر، ولم تنم نوما هانئا، تتخلله الأحلام السعيدة، ورغم نزوحها إلى معسكر، تتجسد فيه كافة أشكال المعاناة والعذاب والموت البطيء، وفق وصفها، إلا أن الأمل مازال يملأ جوانبها، وينثر الأمنيات ثرة في العودة لوطنها الكبير، ومدينتها المستلبة، لتمارس واجبها في تعليم محو الأمية، في المدرسة المجاورة لمنزلها، تسرح فاطمة قليلا وتقول (ستضع الحرب أوزارها وسأشارك في بناء وتعمير وطني)، وتضيف والدموع في عينيها (سنبني الوطن لامحالة ونشارك في رؤية جديدة لإدارة البلاد والمجتمع، النساء وحدهن يصنعن المستحيل، أمامي طريق طويل، وأنا على يقين تام، بأني سأقطع المسافات العصية، لست وحدي سننشر السلام، ونغني له، سندعو الإعلام مشاركتنا برسائل إيجابية تمجد السلام ونبذ الحرب).
فالسلام حالة من الاستقرار والاطمئنان، الذي يعيشه الفرد في مجتمعه، يتمتع بكافة حقوقه ويمارس واجباته دون ضغط أو إكراه، والسلام هو غياب أعمال العنف والحروب، وهو الأمان والاستقرار والانسجام وفعلا هو حالة إيجابية مطلوبة، يلعب فيها الإعلام دورا مهما برسائله التي تنادي بحماية حقوق الإنسان، والمساواة أمام القانون، وتطبيق العدالة، ومنح الفرصة لكل من يرغب في المشاركة وصنع القرار، ورفع الوعي المجتمعي، لتعزيز الديمقراطية، ومكافحة الفساد، والإصلاح الدستوري والتمتع بنعمة الأمن.