مقالات
كلمات دامعة إلى ود المكي في عليائه
د.الباشا برشم:
آه، أيها الموت الحزين!
أترك للحب الغصن الأخضر
غارثيا لوركا
تتزاحم الأفكار في مخيلتي وأنا أخط هذه الكلمات في حق الراحل المقيم محمد المكي ابراھيم، ولهول المصيبة وجلالة الخطب لست أدري من أين تكون البداية وكيف انتهاء الغاية.
كانت آخر ساعات اللقاء قصار معك أيها الرائع ولكنها فيّاضة بالجمال، حين التقينا لآخر مرة في محفل ثقافي بنادي المصارف بالأبيض ٢٠١٤م بمعية الوالي أحمد هارون والجنرال أحمد طه ودكتور بشير عمر فضل الله والأستاذ خالد الشيخ محمود، وكانت وصيتك لي هي التعمق في دراسة الأدب السوداني الذي لم يجد حظه من التسويق على مستوى الوطن العربي.
عرفتك من زمان سحيق وأنت مهموم بالموت مثلك مثل التجاني يوسف بشير، ففي أشعارك تتناثر لفظة الموت وملحقاتها من بكاء، وحزن، وفقر، وكفر، وقبر، وبعث، وقيامة، وجنّة، ونار، ودم، وثأر، وهلاك، وكهولة، ورحيل، وذهاب، وغياب، وغراب، ونافورة الدم، والأبدية، والسرمدية، وسؤال الرحمة… الخ. هذا مع كلماتك الكيميائية -كما يقول مصطفى سند- والموسيقى الشعرية المتمردة على القافية والانعتاق من هيمنتها بكسر تيارها المتواصل، كما هو شأن شعر الحداثة.
ظهر في أعمالك أسلوب النفس الطويل فقد اتسمت بموسيقى حالمة هادئة تتواصل في موجات متناغمة ذات نفس مديد في صبر الدبلوماسي المتأني والمتقصي الذي يجمع أكثر قدر من المعاني والصور ويعطي التعبير أكثر من بعد، ويحيل الأخيلة إلى لوحة فنية متناسقة.
أعمالك الشعرية دائماً ما تنبع من ضمير الأمة؛ لذلك كانت أول إصدارة لكم (أمتي) ١٩٦٩م، (ثم بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) ١٩٧٦م، تلاها ديوان (في خباء العامرية) ١٩٨٦م، ثم (يختبئ البستان فى الوردة) ١٩٨٩م. وكتاب (الفكر السوداني أصوله وتطوره) بدون تاريخ نشر، و(في ذكرى الغابة والصحراء) ٢٠٠٨م. هذا ما وفقني الله للاطلاع عليه من أعمالكم، وبالتأكيد ما خفي عنّي أعظم من كتب تحت الطبع ومقالات متناثرة بالصحف والمجلات العربية والعالمية.
ميلاد الشاعر ١٩٣٩م، بحي القبة بمدينة الأبيض، وهو من أرومة سامقة، نشأ في بيت علم ودين ينسب إلى طائفة الإسماعيلية مما كان له بالغ الأثر في أعماله الأدبية التي يضوع عبق التصوف من بين ثناياها. تفتحت قريحته الشعرية بمدرسة خور طقت الثانوية حيث عُرف بين أقرانه بتميزه ورصانة لغته العربية والإنجليزية وقدرته على التعبير عن مشاعرهم الوطنية. ثم ولج جامعة الخرطوم مطلع ١٩٦٠م وجاءها شاعراً يمتلك أدوات فنّه، فأصبح في طليعة الشعراء الذين أثروا الحياة الجامعية والحركة الأدبية المتنامية والمزدهرة في العاصمة وقتئذٍ.
عمل بالمحاماة ثم وزارة الخارجية وسفيراً للسودان في العواصم الأوروبية والآسيوية فزان المنصب. ثم استقال في عهد حكومة الإنقاذ ليخدم وطنه في ميادين جديدة.
ظلّت قصائده مرآة عاكسة للشعب السوداني معبرة عن الآمال والطموح والنضال من أجل القضايا العادلة.
والشاعر رغم ما اعتراه من نكبات لكنه أبداً لم ينكسر، وقف شامخاً كجبال كردفان ضد الانكسار والهزيمة، لم تلن له قناة، ولم تشتر عبارته، ولم تخب همّته، ولم تخُر عزيمته، جالد الطغاة بكل رباطة جأش، ورحابة صدر، آثر المغارم، ولم يركن للمغانم:
جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة
المستميت على المبادئ مؤمنا
المشرئب إلى السماء لينتقي
صدر السماء لشعبنا
كنت مؤمناً بشعبك أيها الشاعر الفذ، وأبنائه البسطاء والفقراء الذين فتحوا صدورهم للنار وأصبحوا مشاعلاً لتضيء ظلام هذا الوطن الدامس:
إنني أؤمن بالشعب، أمي وأبي
وبأبناء بلادي البسطاء
وبأبناء بلادي الفقراء
الذين اقتحموا النار
فصاروا في يد الشعب مشاعل
والذين انحصدوا في ساحة المجد
فزدنا عددا
والذين احتقروا الموت فعاشوا أبدا
وها نحن نستقبل شهر أكتوبر بالحزن والبكاء المُر على فراقك يا شاعر أكتوبر، دون أن يتحقق الوعد باشتعال الحقول قمحاً ووعداً وتمني، فقد غشتها غائلة الحرب واحترقت بمن فيها من زرع وبشر، بل مازالت البلاد سابحة في الدماء ولن تستطيع ضم رفاتك الطاهرة.
الكتابة عنك أيها الأبيّ تتداعى، ومن الصعب كبح جماح الكلمات في حقك، ولكن اكتفي بهذا القدر خاتماً رسالتي لك بنعيك لصنوِك محمد المهدي المجذوب، ما وجدت أبلغ منها والله العظيم:
أظلمت بوابة الشعر
وأبواب الفراديس أضأن
برحيلك ينفصل الجمر عن صندل الشعر
…
تحييك عني أم الكتاب
وياسين
والشعراء
يحييك غفران ربك في جنة الخلد
دار البقاء
سلاماً وقولاً رحيماً وطلحاً نضيدا
وفاكهة لا انقطاع لها أو فناء
وآخر دعواي فيك أن الحمد لله
أسلمت أمري
ولله أرجع في الراجعين.
د.الباشا برشم
أستاذ مساعد
كلية الآداب- جامعة كردفان