سحابة الحزن تُخيّم في الريف السوداني

طه هارون حامد:
في عمق الأرض السودانية، حيث الخُضرة تمتزج بتراب الطين، وحيث النيل يُعانق الضفاف في هدوء، هناك عالم خاص ينبض بالبساطة والصفاء. إنه الريف السوداني، الذي طالما مثّل وجه الوطن الأصيل، ومرآة الحياة النقية. ولكن خلف هذا الجمال، تخيّم اليوم سحابة حزنٍ ثقيلة على القرى والبوادي، محمّلة بالآهات والأنين، تعكس أوجاع الناس وهمومهم التي لم تعد تُخفى عن العين.
أولًا: ملامح الريف السوداني القديم
قبل أن نغوص في أحزان الحاضر، لا بد أن نستحضر ملامح الريف السوداني كما عرفه الأجداد:
البيوت القشية المتناغمة مع الطبيعة، البسيطة في هيئتها والعميقة في رمزيتها.
الحياة التعاونية التي تجمع الجيران في زراعة المحاصيل أو بناء المنازل أو الأفراح والأتراح.
العادات والتقاليد التي تحفظ قيم الاحترام والتكافل والكرم السوداني الأصيل.
الهدوء والسكينة اللذان يلفان المكان، بعيدًا عن صخب المدينة وضجيجها.
لكن شيئًا فشيئًا، تلاشى هذا الهدوء، وتحوّلت بساطة الريف إلى معاناة مع الفقر والنزوح والإهمال.
ثانيًا: سحابة الحزن.. من أين جاءت؟
1. الفقر المتزايد
رغم أن الريف هو سلة غذاء السودان، فإن من الواقع أن سكانه يعانون الجوع في كثير من الأحيان. تراجعت الإنتاجية الزراعية بسبب:
تغيّر المناخ وعدم انتظام الأمطار.
قلة الدعم الحكومي للمزارعين.
غلاء الوقود ومستلزمات الزراعة.
غياب الخدمات الأساسية (الكهرباء، المياه، التعليم، الصحة).
2. النزوح والصراعات
في السنوات الأخيرة، أدت النزاعات المسلحة في بعض المناطق إلى موجات نزوح كبيرة نحو الريف، مما سبب ضغطًا على الموارد والخدمات المحدودة أصلًا. كما أن بعض القرى نفسها أصبحت ساحة حرب، مما أدى إلى:
تشريد الأسر.
تدمير الممتلكات والمزارع.
انتشار الخوف وانعدام الأمان.
3. الهجرة إلى المدينة
هجر الشباب الريف بحثًا عن فرص حياة أفضل، فتُركت الحقول مهجورة، والمنازل خاوية. أصبح الريف مأوى لكبار السن فقط، الذين يعيشون على الذكريات والحنين، دون سند أو دعم.
4. انهيار التعليم والصحة
لا مدارس مؤهلة، ولا كوادر طبية، ولا طرق معبّدة، ولا مراكز إسعاف. المرضى يُنقلون بالسعف، والأطفال يقطعون أميالًا للتعليم في بيئة غير مهيأة.
ثالثًا: وجوه الحزن في تفاصيل الحياة اليومية
عجوز تجلس على “عنقريب” تحت ظل شجرة، تنتظر عودة ابنٍ هاجر منذ سنوات.
أطفال حفاة يلهون في التراب، بلا ألعاب ولا كراسات.
نساء يقمن برحلة يومية طويلة لجلب الماء من بئر بعيدة.
مزارع ينظر لحقل أصابه الجفاف ويهمس: “زمان كنا نزرع ونحصد ونفرح”.
إنها حكايات الحزن الريفي، لا تُروى بالكلمات فقط، بل تُحس في النظرات، وتُسمع في التنهدات، وتُقرأ في وجوه أنهكتها السنين.
رابعًا: الأمل لا يزال ممكنًا
رغم كل هذا الحزن، إلا أن الريف السوداني لا يزال نابضًا بالحياة. الناس فيه يملكون روحًا قوية، وإرادة لا تنكسر، وأملًا متجذرًا في الأرض مثل شجر النيم والدوم.
لكي تنقشع سحابة الحزن، نحتاج إلى:
1. اهتمام الدولة
دعم الزراعة والتصنيع الزراعي.
إنشاء البنى التحتية (طرق، كهرباء، مياه).
توظيف الكوادر الصحية والتعليمية في الريف.
2. تمكين المجتمعات المحلية
تشجيع المبادرات الشعبية.
إنشاء جمعيات إنتاجية تعاونية.
دعم المرأة الريفية ومشاريعها الصغيرة.
3. مشاركة أبناء الريف في الداخل والخارج
المهاجرون من أبناء القرى يمكنهم دعم أهلهم بمشاريع تنموية.
استثمار العائدات في تحسين المدارس والمراكز الصحية.
خاتمة
إن سحابة الحزن التي تُخيّم في الريف السوداني ليست قدرًا محتومًا، بل هي نتيجة تهميش وتقصير يمكن تجاوزه بالإرادة والتخطيط. فكما أن السحب تحجب الشمس مؤقتًا، لكنها لا تطفئ نورها، فإن الحزن في الريف لا يُلغِي روح الصمود المتأصلة فيه. لا يزال في الريف من يُغني “الطنبور”، ويزرع السنابل، ويبتسم رغم الشدة. فقط، يحتاج إلى من يمد له يد العون لا يد الشفقة، ومن يؤمن أن نهوض السودان يبدأ من ريفه.