السودان الدولة التي لم تكتمل بعد.. ماذا تعلّمنا من ستة عقود من الانقلابات؟
مقاربة نقدية في كتاب “الجيش السوداني والسياسة” للكاتب عصام ميرغني (7-7)

بقلم/ وائل عبدالخالق مالك:
بعد ستة عقود من الانقلابات والانتفاضات والتجارب الانتقالية التي تبدأ دائماً بالأمل وتنتهي بالانقسام يصبح الاستمرار في طرح السؤال القديم كيف نمنع الانقلاب القادم؟ نوعاً من الهروب.
السؤال الحقيقي الذي تأخرنا كثيراً في طرحه هو سؤال مختلف تماماً وهو كيف بنينا دولة تجعل الانقلاب خياراً مطروحاً أصلاً؟
هذه السلسلة من المقالات لم تكن استعراضاً تاريخياً ولا محاولة لإدانة طرف وتبرئة آخر، بل كانت محاولة لتفكيك نمط متكرر يظهر بأشكال مختلفة لكنه يحمل المنطق نفسه. فمن خلال قراءة كتاب الجيش السوداني والسياسة من جذور دخول الجيش المجال العام إلى مايو، مروراً 1976 إلى التمكين والانشقاقات، وصولاً إلى الإحصائيات الواردة في السلسلة تتكوّن صورة واحدة واضحة وهي أن الأزمة ليست في الجيش وحده.
ولا في الأحزاب وحدها بل الأزمة في شكل الدولة نفسها كما وُلدت بعد الاستقلال.
1. 1958: عندما تحوّل الحل المؤقت إلى عادة سياسية..
الخطأ التأسيسي الأول لم يكن انقلاباً عسكرياً بل تسليماً سياسياً.في 1958 لم يقتحم الجيش الحكم بل انت دعوته إليه. المدنيون العاجزون عن إدارة خلافاتهم سلّموا السلطة ثم انسحبوا من المسرح.
لم يدركوا وقتها أن إدخال الجيش في السياسة لا يعمل كزر إيقاف مؤقت بل كتحويل دائم في المسار. وإن ما يبدأ استثناءً يتحول إلى عرف. وما يصبح عرفاً يتحول إلى مؤسسة. في تلك اللحظة وُلد في الخيال السياسي السوداني نموذج المنقذ العسكري وظل يتم استدعاءه كلما تعثرت السياسة حتى صار جزءاً من بنيتها لا نقيضاً لها.
2. مايو 1969: الدولة تكتشف أن الجيش ليس كتلة واحدة..
انقلاب مايو قدّم درساً لم نتعلمه حتى اليوم وهو أن الجيش لا يحكم كجسم موحد بل كتحالف مؤقت بين ضباط بمرجعيات مختلفة. لهذا انقسم النظام سريعاً ودخل في صراعات داخلية وانتهى إلى مواجهات دموية ثم غزو 1976.
الانقلاب الذي يتم تسويقه بوصفه حلاً للاستقرار حمل في داخله بذور عدم الاستقرار. فكل انقلاب ناجح لا يغلق باب السياسة بل يفتح أبواباً جديدة للصراع داخل المؤسسة نفسها.
3. 1976: حين يتحول السلاح إلى لغة سياسية..
الغزو لم يكن حادثة معزولة ولا مجرد مغامرة عسكرية.
كان نتيجة طبيعية لدولة أغلقت السياسة بالكامل واحتكرت الفضاء العام ولم تترك للمعارضة سوى خيارين هما الصمت أو السلاح. وهنا يظهر نمط خطير فكلما ضاقت السياسة تمدد العنف. وكلما غابت القنوات السلمية تحولت البنادق إلى أدوات تفاوض.
السؤال الحقيقي لم يكن هل الغزو مشروع أم خيانة؟
بل كيف وصلنا إلى مرحلة يصبح فيها العمل المسلح هو الوسيلة الوحيدة المتبقية؟
4. 1990: التمكين ليس قوة بل خوف..
إنقلاب الاسلاميين في 1989 لم يأتِ ليحكم فقط بل ليؤمّن نفسه. والتهديد الأكبر في نظره لم يكن المعارضة المدنية بل الجيش ذاته. لهذا بدأ مشروع التمكين من داخل المؤسسة العسكرية وتمثل في إقصاء وإعادة تشكيل وبناء جهاز موازٍ واختراق تنظيمي. وعندما تحرك ضباط ضد هذا المسار جاءت حركة مارس ثم مذبحة أبريل 1990. هذه اللحظة كشفت الحقيقة المجردة بأن نظام الاسلاميين لم يكن يبني دولة بل يحتكر مؤسسة.
ومنذ تلك اللحظة دخل الجيش نفسه في مسار انقسام طويل لم يخرج منه حتى اليوم.
5. القيادة الشرعية: عندما تُستبدل الدولة بالرمز..
تجربة القيادة الشرعية لم تفشل لأنها خيانة أو سذاجة بل لأنها استندت إلى تصور عاطفي لا إلى ميزان قوة حقيقي. استندت الي ضباط بلا جنود ودعم خارجي بلا قاعدة داخلية وشرعية سياسية بلا أرض.
لا توجد دولة تُهزم بجيش منفى. ولا نظام عسكري يسقط بقوة لا تعيش داخل المجتمع. والمعارضة هنا لم تفشل لأنها حاولت بل لأنها اعتقدت أن الرمز يمكن أن يحل محل الدولة.
6. الأرقام تقول ما لا يقوله الخطاب السياسي..
الفصل الإحصائي في الكتاب ليس توثيقاً بل تشخيص حيث كل محاولة انقلاب سبقتها أزمة سياسية. وكل أزمة سياسية فُتح فيها الباب أمام الجيش ليقوم بدور التصحيح. وبهذا المعنى فالانقلاب ليس حدثاً استثنائياً بل عرضاً متكرراً لمرض مزمن هو غياب آليات إدارة الخلاف داخل الدولة.
الاستنتاج الذي لا مهرب منه بعد ستة عقود من الانقلابات أن السودان لم يفشل لأنه عسكري أكثر من اللازم بل لأنه لم يبنِ دولة مدنية حقيقية من الأساس. فالجيش يدخل السياسة عندما يغيب البديل المدني. والانقلاب ينجح عندما تكون تكلفته أقل من تكلفة التفاوض. والعنف يظهر عندما تُغلق السياسة. وما لم تتغير بنية الدولة سيبقى التاريخ يعيد نفسه حتى لو تغيّرت الشعارات.
الخروج من هذه الدائرة لا يحتاج معجزات بل وضوحاً يتمثل في:
دستور دائم لا يُعاد تفصيله مع كل أزمة
أحزاب مؤسسية لا تقوم على الزعامة الفردية والاقصاء والشلليات
جيش محترف لا يرى نفسه وصياً ولا منقذاً
مؤسسات تجعل الانقلاب مغامرة خاسرة لا خياراً عملياً
بإمكاننا الكتابة في أعاد قراءة الماضي. لكن المستقبل لن يُكتب في الكتب. سيُكتب فقط عندما نقرر أخيراً أن نبني دولة لا تحتاج إلى منقذ ولا تنتظر انقلاباً جديداً لتبدأ من الصفر مرة أخرى.


