مقالات

قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ ..

لواء شرطة (م) د.إدريس عبدالله ليمان:

عندما إندلعت الحرب (العبثية) بين قبيلتى بكرٍ وتغلب فى الجاهلية الأولى لناقةٍ قتلها كليب كانت مِلكَاً للبسوس إعتزلها الحارث بن عبّاد وهو أحد سادات العرب وحكمائها والسيِّد فى قومه من بنى بكر (إحدى طرفى النزاع) ، وسعى لإيقافها وإطفاء نارها بالتوسط للصلح رغم ما أُثِرَ عنه من قول : (هذا أمرٌ لا ناقة لنا فيه ولاجمل) .. !! ومن شِدَّة حِرصِه على حقن الدماء أرسل إبنه الوحيد (بُجَير) الذى كان يستندُ عليه فى شيخوخته بعد أنْ ضَعُفَ بصره إلى المهلهل رسولاً للسلام ليحقِنَ ما تبقَّى من دماء الطرفين المتقاتلين .. !! إلاَّ أنّ المهلهل قتل بُجيراً رغم أن الرُسُلُ لايُقتلون ، وقال قولته التى صارت مثلاً : ( بوء بِشِسعِ نَعلِ كُليب ..!!) أى أن هذه القِتلة لم تكن ثأراً لكليب بل كانت لسيور حذاءه إمعاناً فى الإذلال والبقيةُ تأتى ( والحسّابة تحسب على قول عادل إمام ) ..!! وكان هذا الفعل المُشين رسالة من المهلهل بأن السجال بينهم لايزالُ قائماً ولن يجنحوا للسلم وإن كان رسول السلام سيِّدَاً فى قومه .. الأمر الذى أغضب الحارث بن عبّاد وأخرجه من حالة الحِياد وإعتزال الحرب فقال إئتونى بالنَعَامَةِ وهى فرسه المشهورة التى كان يقول فيها شعراً لجمالها وقوتها ، فجاؤوه بها فجَزَّ ناصيتها وقَطَعَ ذَنَبَهَا ودخل الحرب على شيخوخته وضعف بصره فقتل المهلهل أخذاً بثأر إبنه المغدور ، وأخذاً لثأر الكرامة القبلية أو الوطنية .. فإتَّخَذَتْ العرب من بعده ذلكم الصنيع سُنَّةً عندما تريد الأخذ بالثأر .. ومن ثمَّ إنتصرت بَكرَاً فى الحرب وكانت هذه الحادثة هى بداية النهاية لحرب البسوس التى أهلكت الفريقين .

وها هو التأريخ يّعيدُ دورته فى الجاهلية المعاصرة من جديد فرأينا كثيراً من أهل السودان ( خواصّهم وعامَّتهم ) وهم على *الحياد* عند إندلاع الحرب لموجدةٍ منهم على الحكومة القائمة ولِظَنِّهم بأنها صراعٌ على السلطة وتكالبٌ على زينتها .. ولكنَّهم بعد أن رأوا الفظائع التى صاحَبَتها والتى لم تُنكئُ عدوَّاً ولم تُرضِى صديقاً وفتحت الكثير من أبوابِ الخراب والدمار التى كانت موصدة ، وجرَّت العديد من الأزمات الإنسانية وأشعلت النّار التى وقودها البشر والشجر والحرث والنسل فى أطراف الدولة السودانية ، ونَثَرَتْ الخوف ورائحة الدماء وكادت أن تُبيد أمَّة السودان بقضِّها وقضيضها ، وأوشكتْ أن تختطف دولتهم منذ أن وَطِئَتْ أظلاف البُغاة أرضهم .. فبعد كل تلك المجازر التى أُرتُكِبَتْ بحق الشعب السودانى رَقَّتْ طبقة الحياد عندهم وتضَعضَعتْ وأدركوا بفطرتهم وفطنتهم أن التمادى فى موقفهم الذى كانوا يعتقدونه صواباً يُعدُّ خِيانة وأنّ العِناد مُكابرة والحِياد جريمة ..!! فأخذوا عهداً على أنفسهم أن لايكونوا ظهيراً أو شريكاً لمن يسَحق الأبرياء ويهينهم بهذه الطريقة البشعة .. فتراجعوا عن موقفهم ولم يتمادوا فيه بعد أن هَدَتهُم بصيرتهم بأنّ السكوت على الباطل ليس من شِيَمِ الشـرفاء ، وأنَّ الوقوف إلى جانب الحق والعدل والكرامة خيراً لهم وأبقى .

ورغم كل ذلك هنالك من يدَّعى الوطنية ومودَّة أهل السودان ومحبَّتهم من بنى جلدتنا ولا يَتَمعَّر وجهُه مما أحدثته المليشيا فى بلادنا .. !! ولايزال هناك من يقف فى صفها دعماً ومناصرةً سِراً وعلانيةً ، ولايدرون أن التأريخ قد حفظ مخازيهم ومواقفهم الداعمة للمليشيا ، وشٕهِدَ عليهم بأنهم شُركاءُ فى الدم السودانى .. ( وليحمِلُنَّ أثقَالَهم وأثقالاً مع أثقَالِهم ) .

وإلى حين إرتفاع رايات النصر المأمول بحول الله وقوته لا لومَ على أهل بلادى إنْ قَرّبوا مربط النَعَامَةَ وجَزَّوا ناصيتها كما فعل بن عبَّاد فسيوف المليشيا لاتزال تَقطِرُ من دَّم أهل السودان كما سالت قطراتٌ من دماء بُجير على سيوف التغلبيين .

حفظ الله بلادنا وأهلها من كل سوء .

الثلاثاء ١٠ ديسمبر ٢٠٢٤م

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق