منوعات وفنون

الفنان الدرامي ديرك الفريد مبدعاً وإنساناً

بقلم/ مصعب الصاوي:

احتاجت هذه المدونة لهدأة تمتص فيها الذات صدمة الفقد ووقتا إضافيا لتنحسر أمواج الأحزان ولا أظنها تنقضي. لقد كان رحيل الفنان الدرامي الشامل متعدد المواهب والعطاءات خسارة للسودان بمعناه الواسع الأشمل قبل أن تقسمه أقدار السياسة إلى السودان ودولة جنوب السودان.

سعدت جداً بأن أقام الأحباب في دولة جنوب السودان مهرجاناً تكريمياً احتفى بإرثه وأثره الثقافي الباقي، وقد تابعت هذه الفعالية عبر الوسائط ومارشح عنها من أخبار وقصاصات.

لاشك أن ديرك يستحق مثل تلك الاحتفالية التذكارية وأكثر وتحاول هذه الكتابة النوستالجية استعادة وبناء سيرته مرة أخرى في الذاكرة لتغطي جوانب لمستها عن كثب طوال صحبتي له لعقود من الزمان.

المشخصاتي:
يجمع كل من عاصر أو جايل أو شاهد ديرك اويا الفريد، يمثل أنه مشخصاتي من طراز فريد يمتلك كل عدة ومقومات الممثل الممتاز ( مرونة الجسد وتعبيريته، الذكاء العقلي والنفسي في الاتصال بحياة الشخصية وأبعادها في الأداء، التحليل الشفاف للشخصيات الدرامية قبل الدخول في ايهابها، الاتصال الوجداني بدائرة التمثيل المكان والشخصيات التي تشاركه العمل، حيوية الممثل وسحره وإشعاعه في الخشبة).
هذا بخصوص الشخصيات في مسرحتها الكلاسيكية أما في فضاء التمثيل الفردي أو (المونودرامي) فديرك صاحب أسلوب جمالي خاص يعتمد تقنيات الجسد وإطلاق طاقات الفعل التعبيري لأقصى مدى. وديرك يبني رواية المونودراما بكتابته هو المباشرة للقصص التي يحكيها على الخشبة أو بتناول قصص يقوم هو بإعدادها كدراماتورج وهو من أفضل من يقوم بالمعالجة الدراماتورجية للنصوص مستفيداً من ملكاته ككاتب وخياله الفني كمخرج وصانع عرض .
صنع ديرك في مشروع تخرجه عرض (حكاية ظل الحمار ) لدورنمات والمسرحية أقرب لحكاية شعبية تم تطويرها لنص مسرحي وملخصها أن طبيبا استأجر حمارا ليصل إلى بلدة ريفية قريبة من المدينة واستغل الحمار برفقة صاحبه لهذا المشوار وفي منتصف المسافة اشتدت وقدة الشمس فاستظل الطبيب بظل الحمار ليشتبك مع صاحبه الذي احتج على الطبيب بأن من حقه فقط كمستأجر ظهر الحمار وليس ظله وتتصاعد الحكاية والجدل الى مستويات متصاعدة ليعلق الحمار في نهاية المسرحية وهو يخاطب الجمهور هل أنا الحمار الوحيد في هذه الحكاية ؟!
استطاع ديرك الفريد إخراج هذا العمل برؤية فلسفية جمالية رائعة من أربع وحدات معمارية هي: المدينة التي بدت كبانوراما بعيدة أي محطة الإنطلاق ومكان البطل الصراع والجدل وسط الوسط وديكورها مجموعة برافانات بألوان متنافرة واستخدام أسلوب تشخيص العرائس لإظهار الحمار كبطل افتراضي ومحور للأحداث  في تشكيل الصورة المشهدية.

كان ديرك شديد التأثر بقروتوفيسكي وهو تركيز العناية على الممثل وجعل جميع فنيات المسرح من ديكور وأزياء مجرد إشارات رمزية موحية تؤسس لمملكة الممثل على فضاء الخشبة.

الموسيقى والغناء:
عنى ديرك ومنذ مراحل دراسته الأولية بالموسيقى والغناء خاصة موسيقات جنوب السودان التقليدية وهو باحث لايشق له غبار في هذا الباب وقد بدأ بحثا حقيقيا عن رواد الموسيقى الحديثة في جنوب السودان بل عازفي الطبول والبالنبو على وجه الخصوص، فهو معجب بهذه الآلة الساحرة وآلة الادونقو على وجه الخصوص.

وديرك نفسه مغني وموسيقى بارع على آلة الجيتار الكلاسيك وقد سجلت معه بصحبة الصديق أبوبكر الهادي سلسلة حلقات عن أغاني المجموعة التي ينتمي اليها (البلندا) وسجل تحية ضاحكة لأغنية يحبها هي (سوري لانت يا اخي)، وتحدث عن يوسف فتاكي وغنى له.

انضم ديرك في أول شبابه لمجموعات من فرق الجاز قبل التحاقه بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح حسب روايته.

وقال ضاحكا كنا نغني بثمن ترحيل الآلات لكن شغفنا بالموسيقى لم يتوقف وفي تلك الفترة تعلم تقنيات الصوت ومعرفة ضبط السماعات وهذه المسألة قادته لدراسة فنون الإنتاج الإذاعي في مرحلة لاحقة في معهد هيرفرسم بهولندا حتى صار واحدا من قلة من المتخصصين في الإنتاج الإذاعي الاحترافي وقد استقطبه المخرج أحمد طه امفريب لإعداد عدد من السهرات لإذاعة البرنامج الثاني، وبالفعل أنتج حوالى أربعة سهرات كتبها للإذاعة ولاتزال في إرشيف (هنا ام درمان).

تعلم ديرك في راديو ومعهد هيلفرسم تسجيل الموسيقى والمؤثرات الصوتية واستخداماتها المتعددة، وفي فترة وجوده بالمعهد قدم لعقد الجلاد أغنية (ماما.. نموت ساكت).

ظهرت لمسات ديرك كفنان موسيقى في نشاط فرقة كواتو بصحبة الفنان الكبير السماني لوال والفنان المدهش المميز استيفان اوشيلا واستطاعوا جعل كواتو جامعة لفنون الأداء، رقصا وغناءً واستعراضا وإيقاعات.

من انتباهات ديرك الذكية بحثه عن أثر طلاب مدرسة رومبيك بعد نقلهم إلى الخرطوم، وكيف استطاع شرحبيل الاستفادة من هذه المجموعة الموهوبة في التعامل مع آلة الجيتار في حوار ثقافي فني إنساني يشير إلى دور الفنون في تجسير الثقافات وهو المبحث الذي صار لاحقاً من مشاغيله الفكرية الأساسية الفنون كأساس للتعارف والتواصل بين المجموعات السودانية أولاً عبورا إلى العالم بمعناه الأوسع.

ديرك باحثا :
اجتهد ديرك كباحث ومنقب وقارئ في أن يتعرف على هوية السودان الثقافية، وكتب في فترة الدبلوم العالي بكلية الفنون والدراسات الإنسانية بحثا مميزا عن مجموعة البلندا تراثها وأغانيها وسبل كسب عيشها مشفوعا بالصور والرسومات التي يجيدها بجانب خطه الجميل الأنيق واتبعه ببحث آخر عن (الصلح العرفي) كيف يتم وماهي مواصفات من يتصدون لهذه المهمة وخلص إلى أن الأساس في انتخابهم لهذه المهمة البلاغة والمعرفة بالموروث وقوة الحضور والمقبولية.

في زيارته الأخيرة لأم درمان زرته بمنزله في الفتيحاب وكان المنزل لايزال تحت الصيانة والتأهيل وقال لي إنه مشغول ببناء إرشيف فوتوغرافي لجنوب السودان خاصة فترة اتفاقية أديس ابابا وماسبقها وماتلاها من زيارات إعلامية وثقت تقريبا لكل بقعة في جنوب السودان خاصة وأن الرئيس نميري كان يتبعه طاقما إعلاميا ضخماً.
من ضمن اهتمامات ديرك البحثية ماكتب عن الجنوب في مصادر أوربية باللغة الانجليزية أو ماكتب عنه في مجلة السودان رسائل ومدونات خاصة تلك الدراسات عن البيئة والأشجار والحيوان وقد سألني عن كتاب نادر كتب عن طيور السودان فيه رسومات عن الطيور وأنواعها وأرشدته إلى مكتبة السودان بجامعة السودان فذهب وتصفحه كطفل يقرأ كتابه الأول وهاتفني في المساء قائلا وجدت الكتاب ولم أشعر بالوقت حتى اغلقت المكتبة وللأسف إذا اتصور ماح يطلع ملون.

فن الأيقونة:
من اهتمامات ديرك النادرة اهتمامه بفن الأيقونة وهو فن مسيحي يعنى بتشكيل الشخصيات المقدسة بجانب روايات مصورة لقصص من الكتاب المقدس وكنا نتحاور في هذا الباب طويلا، قلت له زرت كنيسة سانت جورج في اديس ابابا ولفتني تكييف الأيقونات المسيحية على الثقافة الأثيوبية المحلية فمثلا أيقونة العذراء مريم تصفف شعرها على الطريقة الأثيوبية وحتى خامات وتفصيل الملبس يتم على هذا النحو  وشكل المزود والمقصف من حولها تم تصويرها  وفق ماهو موجود في الحبشة، قال لي هذه ظاهرة موجودة في معظم الكنائس الأفريقية وهي حالة إنتبه لها رجال الكنيسة لتقريب التصورات الدينية لتلك المجتمعات وقال لي حتى في جنوب السودان تم اعتماد الكورال الافريقي بإيقاعاته وموسيقانا المحلية مشيراً إلى الأثر المتبادل بين الدين والثقافة.

ختاما:
أرجو أن يكون مهرجان ديرك عملاً دورياً متصلاً يغطي كل القضايا والاهتمامات التي نذر ديرك نفسه لها وبذل في سبيلها التضحيات الجسام والرهق والمعاناة كما أرجو من الأخوة في دولة جنوب السودان إطلاق اسمه على أحد ستوديوهات الإذاعة فقد كان إذاعيا محترفا مجوداً تدرب على فنون الإنتاج الإذاعي في أفضل معاهد العالم هيلفرسوم.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق