مقالات

التسوية السياسية بين عوامل الفشل الماثلة وفرص النجاح الممكنة

فتح الرحمن يوسف سيدأحمد:

كمدخل للغوص في تفاصيل العنوان أعلاه، لا بد لنا من العودة للوراء قليلا مستفيدين من تجارب الماضي القريب وعبره إن كنا فعلا على دراية وإلمام بل وحساسية عالية تجاه مايتهدد الوطن من مخاطر ومايمكن أن يتعرض له من انفراط في عقده الأمني والإجتماعي؛ وكذلك لابد من التحلل عند نقاش هذا العنوان من أي قيد حزبي أو جهوي والنظرة بموضوعية بعيدا عن التحيز لأي فئة من الفئات المتصارعة سياسياً الآن لأن الصراع الماثل في طبيعته هو صراع سياسي في المقام الأول.
بالرجوع إلي الماضي قليلا نجد أن هنالك دروسا مستفادة يجب الوقوف عندها على سبيل المثال وفي السياق الذي يخدم موضوع هذا المقال هي :
أي إستقواء لمدنيين بالعسكر نهايته انقلاب العسكر على المدنيين أنفسهم مجرد أن يلم العسكر بنقاط ضعف المدنيين .
أي إقصاء لأي فئة مهما صغرت يولد إقصاءا مضادا ويوفر مبررات لسلوك عدواني عنيف.
أي تعويل على الأجنبي لن يقود إلى مخرجات وطنية خالصة بل يوفر مبررات موضوعية يمكن أن يتبناها المعارضون لمشروع التغيير.

عولت من قبل حكومة المؤتمر الوطني على الخارج في دعم اتفاق السلام الشامل ونسيت أن تستصحب إرادة الشعب ومنظوماته في مراحل الإتفاق وتقاعست حتى القوى السياسية الأخرى عن لعب أي دور وطني يجنب البلاد مآل التصدع وفشلنا خلال ٦ سنوات في جعل الوحدة أمراً جاذبا لشعبنا في الجنوب الحبيب فكان الانفصال في العام ٢٠١١م .
عولنا على الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي في حماية المدنيين في دارفور فلم يتحقق الأمن ولم يتوقف نزيف الدماء .
جلبنا البعثة الأممية وتسولنا السفارات وسمحنا للسفراء الأجانب يتجولون بين الشعب وكأنهم حكامه وأدخلناهم في شأننا الداخلي فما زادت أزماتنا إلا تعقيدا، وأوهمونا بالدعم فسرقوا قوت عيالنا
لندفع ملايين الدولارات تعويضا لضحايا جرائم ليس لشعب السودان فيها يد ولم تثبت محكمة ذلك أبدا ومع ذلك كله نستبعد إمكانية تلاقينا كسودانيين ونتجاهل أن الحل يكمن بيننا وفينا.
أي إهمال للمجتمع التقليدي المتمثل في الطرق الصوفية والإدارات الأهلية رغم تحفظاتنا الكثيرة حول مواقفهم إلا أن عدم استيعابهم في أي معادلة سياسية هدفها التغيير فيه شئ من البلادة السياسية واستسهال مايمكن أن يكونوا عليه مستقبلا فهم دوما عرضة لاستغلال العسكر وبعض القوى السياسية التي من مصلحتها أن يظل المجتمع التقليدي هكذا على تقليديته لأن أي رقي لحالة الوعي عند هذا المجتمع تؤثر على ولاءاته السياسية والطائفية والجهوية.
طوال التاريخ السياسي السوداني الحديث كان في إمكان النخب السياسية الاستئثار بالسلطة والثروة والتغلغل في مؤسسات الدولة وكأن هذا هو الهدف المنشود من العملية السياسية برمتها، ولكن لم يكن في مقدورهم أبدا إحداث تغير بنيوي حقيقي وذلك لعدم فهمهم لطبيعة المجتمع التقليدي وحركته وحدود وعيه واحتياجاته.

المجتمع الغالب في السودان هو ذلك المجتمع التقليدي الذي يمتد في كل أطراف السودان حتى داخل العاصمة وبعد النخب عنه وعن محاولات ترقيته وتطوير مكانيزمات الإنتاج المعرفي والإقتصادي لديه هذا يعطل الحديث عن نهضة سودانية شاملة.
الإنحيازات الأيديولوجية العمياء وتغليب المصالح الحزبية على المصلحة الوطنية وتقديس الأنا الحزبية والطائفية والجهوية وعدم قبولنا لبعضنا البعض ثم التخوين وادعاء كل منا حق امتلاك توزيع صكوك الوطنية والثورية كيفما نحددها بمعاييرنا الخاصة الخاضعة لانحيازاتنا الأيديولوجية وخلافاتنا المزمنة كل ذلك جعل من إمكانية التواضع على مشروع وطني جامع ودستور دائم للبلاد أمرا مستحيلا.
رغم كل الجرائم الفظيعة التي تم ارتكابها في حق شعب السودان العظيم والتي تقف من ورائها القوى السياسية يميناً ويساراً لم يحاكم فيها مجرم حقيقي واحد، ودائما هنالك حقائق غائبة وتائهة وسط السياسيين لأنهم وحدهم الشاهد على كل جرم
ومالك حقيقته ولكنهم يتسترون ولا يجتمعون إلا في طمس هوية الجناة وتمييع القضايا والشعب رغم ذكائه يجهل أن تلك الجرائم تحدث وفقا لقرارات مؤسسات حزبية، وتلك الأحزاب تعلم تماما لو أن العدالة الحقيقية أقيمت لن تستثني حزبا فمثلا لو حوكم الإنقاذيون على انقلابهم لابد أنه سيأتي دور انقلاب حزب الأمة الأول مع عبود وانقلاب البعثيين والشيوعيين مع نميري وإن حوكم من ارتكب مجزرة فض الاعتصام سيأتي يوما تفتح فيه ملفات مجازر قصر الضيافة وود نوباوي والجزيرة أبا وقطار الضعين وجودة وغيرها، هم يعلمون أن الأيام دول (والحساب ولد).
الملاحظ أنه بعد كل ثورة نجهل كيفية لملمة أطراف الصراع السياسي المزمن والمتكرر ونتصارع حتى خلال الفترة الانتقالية ودائما ماتقوم فئة معينة بالاستئثار بكل شئ وإقصاء الآخرين .
ذكرت كل ذلك السرد توطئة للحديث عن التسوية المطروحة الآن بين العسكر وجزء من المكونات المدنية وأسوأ ما في هذه التسوية أن القائمين عليها تناسوا كل عبر الماضي ويريدون إلزام الآخرين بوثيقة صنعها تحالف واحد من بين تحالفات متعددة وبالنسبة لي مهما كان شأن تلك الوثيقة وكمالها والكمال لله وحده في وجود مواثيق أخرى مطروحة لن تأتي بخير لأن الآخرين جاهزين وفي أيديهم معاول الهدم طالما أنهم لم يشاوروا وتم إقصائهم ويراد التقرير لهم في الشأن الوطني العام نيابة عنهم .
والأكثر سوءا أن تلك التسوية تجري محاولة فرضها عن طريق الأجنبي والاستقواء بالعسكر والمليشيات، وظهر ذلك جليا في محاولات فولكر مع نظار الشرق دقلل ومحمد الأمين ترك واحتلال دور الاتحاديين الأصل الرافضين لوثيقة المحامين من قبل مليشيا الدعم السريع وهذا في اعتقادي أمر معيب.
إن هذه التسوية إن أريد لها التمام يجب أن تستند على نقاط موضوعية أهمها ألا تستند على وثيقة المحامين فقط بل يجب أن تجمع كل المبادرات المبادرات المطروحة ويستمع من خلالها لكل آراء التحالفات الأخرى للوصول بعد ذلك لوثيقة جامعة متفق حولها في حدها الأدني تدار بها الفترة الانتقالية.
ماتزال الفرصة متاحة أمام أصحاب التسوية لمراجعة عواقب فرضها بشكلها الحالي لتجنب الحشد المضاد و النأي عن زيادة حدة الصراع والاستقطاب وبروز رؤى وكيانات متطرفة لن تجد عناءا في وجود المبررات لأي سلوك سياسي همجي.
أنا مع التسوية ولكن ليس بشكلها الثنائي الحالي بين العسكر وقحت المركزي وألا تستند فقط علي وثيقة المحامين وإنما أن يحشد لها ضحي وفي العلن كل المكونات والتحالفات وأن يتواضع الجميع علي وثيقة واحدة وأن يتم الاتفاق علي فترة إنتقالية تدار ببرنامج معلوم الأجندة يدعمها الجميع دون رفع لمعاول الهدم فيها، وتدار من خلال حكومة تكنوقراط (كفاءات مستقلة ) ولتذهب القوى السياسية لبناء منظوماتها وتجهيز قواعدها للإنتخابات حينها (الحشاش يملأ شبكته) .
لطالما أن الأمر أمر تسوية شاملة فشمولها يقتضي ماذكرته فالسودان ليس ملكا لمكون دون الآخرين وإدارة شأنه ليست حكرا على قلة دون الغالبية .
إن سارت التسوية كما هي عليه مهما كان صدق نوايا القائمين عليها وفرضت بقوة العسكر والمجتمع الدولي بعيداً عن خلق إجماع وطني عريض خلفها لن يُكتب لها النجاح وستزيد طين البلد بلة.

20 نوفمبر 2022م
فرنسا – باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق