مقالات

مجدي جلال يكتب لمحمد جلال هاشم: “احتمال تحت القبة في فكي “

مقدمة:

في تداعيات مقال مراسلاتي مع صديقي د. محمد جلال هاشم مازالت تداعيات ذاك المقال تترى وها هو ذا شقيقه مجدي جلال هاشم يكتب من فرنسا مقالا -(ونسة بين شقيقين)- يضاف لتلك التداعيات المتواترة (قصي همرور – عالم عباس) ثم جاء مجدي جلال واعتقد ان هناك بقية سياتون متى ما اكتملت دائرة الانفعال فيهم وهدا يقيني في ان ما كتبه استاذي د.محمد جلال هاشم سيفجر احبار اقلام عديدة.
وانا هنا انشره بدون استئذان من صديقي د. محمد جلال هاشم لقناعتي انه مقال يفيد الشأن العام وجدير بالقراءة للجميع وممتع وطاعم في الوقت الذي انعدمت فيه طعامة متعة الكتابة والقراءة فلقد اغرقتنا هذه الحرب اللعينة في الاستهلاك الممل في التوصيف والتحليل وتحديد المواقف والتخوين والتمجيد وحراسة النوايا.


عمر رنقو
——————-

عودة إلى ما أثاره قصي لرفد الفكر الجاد بخصوص النظر لنمازج دور المثقف فى المجال العام بين معايير الفكر والأخلاق والالتزام الشخصى.

 

محمد يا صديقى، يا عزيزى، يا اخى،

لك الود والتحايا والاشواق،

 

تعرف يا ابو حميد، فى نهاية 89 وانا أجهز أمورى لمغادرة السودان متجه لإيطاليا، سألنى اخونا وحبيبنا طيب الذكر كمال، والذي لم يفارقنا سوى جسده… سألنى : اها انت مشروعك شنو؟ وبينى وبينك انا ما كان عندي مشروع محدد! فقال لي: فى دول غرب أوروبا ما ممكن تعيش من غير إقامة وأسهل طريقة للحصول على الإقامة وخاصة في الأيام دى، بعد انقلاب “الإنقاذ” هى طلب اللجوء السياسي.

وشرح لى بإسهاب عملية طلب اللجوء (ومن دونه أدرى بقضايا الجوازات والهجرة!). الكلام ده طبعاً أزال كثير من الغشاوة اللى كانت تحيط بمشروع سفرى ورفع من روحي المعنوية.

وانا مبسوط بالمعلومات الإيجابية دى جيت أبشرك بيها عشان لو قررت السفر تكون عارف ما يفترض عمله! ردك يا محمد وقع على كوقع الصاعقة فقلت لى:

٠ شوف يا مجدى، انا مستحيل اطلع من السودان!

٠ ليه؟

٠ لسببين، الأول، انا كان طلعت من السودان سأدير ظهرى للسودان once and for ever (بالانجليزيه فى الحوار) وحاقطع كل علاقة لى بالبلد، وده شئ انا ما عايز اعمله لأنه تحقيقه صعب ومؤلم. والتانى هو إنه معيشتى ووجودى داخل هذا المجتمع هما مصدر إلهام نشاطى وفكرى ونضالى! هل يعقل أن تعيش على بعد آلاف الكيلومترات من مجتمع تسعى لتعديله وإصلاحه؟ ياخى دى إسمها شيزوفرينيا!

 

وانت فى ذلك يا صاح لمحق كل الحق، ودونك ما كتبه فى هذا الصدد صديقك واستاذنا عالم عباس عندما صور هذا التمزق الشيزوفرينى ببراعة قائلاً:

 

لكنما ليلاى ابعد،

والوطن ينأى مع الأيام،

لكن الوطن ينمو،

فياليلاى مع الأيام أيكما الوطن؟

 

شوف يا حبيب، انا أذكر هذا الحديث كما لو انه جرى البارحة. وبالمناسبة ردك هذا كان له دوراً جوهرياً فى تشكيل مفهومى لقضية الهجرة بشكلٍ عام وفى هجرتى أنا بشكلٍ خاص. أذكر كذلك النصح القصير والعميق الذي قدمته إلى الطاهر وناصر الذين سبقونى فى السفر فى حالة أقرب إلى التنبؤ ( شوفوا يا شباب، خليكم عارفين إنكم ما حترجعوا البلد دى تانى! ولو عايزين منى نصيحة، اعملوا على ألا تعودوا ورسخوا استقراركم فى البلد الجديد)  أضف إلى ذلك كل الدراسات والكتابات التي اطلعت عليها إبان عملى مع المنظمة السودانية لحقوق الإنسان فى باريس. ولعلك تذكر حواراتنا المتعددة بشأن موضوع الهجرة إبان لقاءاتنا فى فرنسا وبريطانيا…

طبعاً موضوع الهجرة اللى اتكلمنا فيه، ده موضوع طويل وبخص عامة المهاجرين وده ما مكانه ولا وكته. لكن ما يهمنى فى هذه المساحة الصغيرة، هو ما قاله قصى ( النظر لنماذج دور المثقف فى المجال العام…) وتحديداً وهو فى بلاد المهجر!

إذا كان سببك الأول لرفض الهجرة حاد ويلامس التطرف، تجدنى أتفق معك بشكل شبه كامل فى السبب الثانى.

 

انت يا صديقي تجاوزت عصرك ولم تنتظر أن تطأ قدماك جمرات الهجرة لتدرى بأنها حارقة! فمالذى انقذك من نيرانها؟ أهو نفاذ البصيرة؟ أم هو التزامك بمبادئ وقيم نذرت حياتك لها؟

أنت تدرى وأنا كذلك أدرى…

 

***

 

تعرف يا عزيزي، منذ إندلاع الحرب فى الوطن الحبيب اتصلوا بي عدد من الإخوان والأصدقاء والأقارب (من بينهم أوروبيين ) كان طلبهم انى اقنعك بحكم علاقتنا بأن تغادر السودان ولو لفترة حتى تهدأ الأمور. الطريف فى الأمر أننا كنا بنتكاتب بصورة شبه يومية خاصة في الأيام الأولى دون ان أتطرق اطلاقاً للموضوع (ما أنا عارف وجهة نظرك قبل أكثر من 30 سنة وقبلان بيها) المهم لغاية ما الأمور عگت مرة واحدة وقل التواصل نتيجة لسوء الشبكة وربما لانشغالك وعدم استقرارك! لكن ما علينا، فى إحدى المرات ضعفت النفس وسألتك :

٠انت وين هسه؟

٠ ما زلت داخل الجب فى الخرطوم.

٠ طيب إنت ما قادر تغادر الخرطوم ولا ما عايز تغادر ؟ (طبعاً أنا بسألك السؤال ده وانا عارف مسبقاً إجابتك لكن who knows!! )

وجاء ردك هذه المرة بالإنجليزية:

Khartoum is my fate, one cannot flee his fate!

عندها اتصلت مباشرة مؤملا سماع صوتك متوجسا ان تكون تلك آخر مرة اسمعه! فأنا يا صديقي قبلت خيارك واحترمت إلتزامك. لكن البيقنع الديك منو؟ والصعوبة يا عزيزى لم تكن فى إقناع الناس بصحة وجهة نظرك، فالقضية ليست قضية إقناع بقدر ما هى قضية لشرح نموذج من نماذج نضال المثقف تجاه قضية يؤمن بها وهو ما اصنفه بالنضال الثوري. وهنا يا صديقى بدأ (حوار الطرشان) والله يا محمد، فى كثير من الأحيان كان ينتابني الإحساس باننى اخاطبهم بالصينية بينما هم يتحدثون العربية بالكاد… طبعاً يا صاح لا يغيب عليك بأن كل هؤلاء لم يحسموا علاقتهم مع مسألة الموت، بل يعتبرون الموت كارثة وما هو كذلك! إذا كان الموت كارثة، والله لعفي الكثيرون منه. فالموت حق وهو مصير كل كائن حي! إن لم تمنيته وجب عليك قبوله حين يطرق بابك!  وفى ذلك ينبغى الرجوع إلى ما يقوله الحكماء الروحانيين (عندما تتصالح مع الموت تبدأ حياتك الحقيقية) ولا يغيب عليك كذلك استغلال النخب العالمية المريضة التي تسير العالم لمسألة الموت للسيطرة على شعوبها المغلوب على أمرها، ودونك ما فعلوه مؤخراً بإسم الصحة فيما أسموه ب “جائحة كورونا” وما علاقتها بالجائحة سوى الإسم، وما هي إلا psycho-pandemic متروك ليك أمر الترجمة.

تتصور معظم شعوب العالم، خوفاً من أن تموت توقفت عن الحياة!!! ياللهول!!! الشعوب بخوفها من الموت وتدنى وعيها فى بعض الأحيان، أعطت الصلاحية والاذن للنخب المريضة بأن تنتهك حقوقها معتقدة توهما أنها تعمل لحمايتها. لكن الشعوب فى جوهرها تظل ذات سيادة  ومستقلة، متى ما استفاقت استعادت حقوقها ومكتسباتها.

 

اذا الشعب يوما أراد الحياة   فلا بد أن يستجيب القدر

 

وشعبنا السودانى النبيل قدم لنا من الأمثال ما يكفى لتعليم الشعوب. إلا أن هذا الشعب العظيم خانته دوماً نخبه المريضة.

فلك يا صديقي ان تتصور كم أرهقتني هذه المحادثات غير المجدية! ويجوك ثعالبة الفكر منهم يقولوا ليك ( نحن ياخى محتاجين لمحمد وأمثاله لدفع القضية…) وكأنما حبل الفكر انقطع يوم غادرونا رجال الفكر! بعدين الأستاذ محمود محمد طه كان غالبه يقرأ الاعتراف السمج اللى كتبوه ليه كلاب مايو عشان ينقذ حياته؟

 

النضال الثوري هذا، فى اعتقادي هو أسمى وأرقى نماذج النضال لأنه لا ينهض على درجة عالية من الوعى ونفاذ البصيرة فحسب، بل يقتضى درجة عالية من الشجاعة قل ما تجود بها الطبيعة، وأنت يا حبيبي وأمثالك حظتكم الطبيعة بهذه الصفة النبيلة التى تمنع الخوف من أن يجد إليكم سبيلاً.

 

طيب يا سيدى بعد ما قلنا الكلام ده، هل هذا يعنى بأن النضال ينبغى أن يكون ثوريا فقط؟ لا أعتقد ذلك وأنت كذلك، ويكفى الرجوع إلى ردك لعمر رنقو والذى تؤكد فيه احترامك لخيارات الآخرين. فكل حسب طاقته وقدراته.

ما اعتقد فيه، هو أن يعى المرء بأوجه القصور في شكل نضاله لتحسينها إن أمكن ونقاط القوة فيه لتعزيزها. وخلينا نرجع لمثلنا الشعبى الحكيم ( مد كراعك على قدر لحافك) يعنى لما تكون عايش فى “واق الواق” لا بد أن تعي بأن تحليلك  لما يحدث فى السودان هو قاصر وناقص، وللمفارقة هذا الوعي بالقصور والنقصان هو ما يضفي قدرا من الموضوعية والواقعية اللذان يفضيان بدورهما الى درجة من الفعالية لهذا النموذج من النضال.

تعرف انا لما جيت فرنسا، جونى ناس التجمع الوطني الديموقراطي عشان انضم ليهم واساهم فى نشاطهم، ما إضافة إلى إنه الزول اخو محمد جلال، يبدو إنه عنده حاجة (إحتمال تحت القبة فى فكى…) المهم، بعد فترة من الزمن اكتشف بأنه الناس ديل بتفصلنى عنهم سنوات ضوئية فى تناول القضية ومقاربتها، خليك من قضية الوعي بقصور نموذج النضال ووووو…الخ! فيا زول قمت انسحبت بهدوء ( فعلها من قبلى اخونا وحبيبنا محمد عباس إذ كان يتجاوزنى وعيا حينها، حينها فقط… دى طبعاً مداعبة لمحمد) فأنا ما وددت النضال يوماً، والله لو وددته يا حبيب لما فارقت دربك مليمترا واحداً ( نعيش سوا ونموت سوا) وده طبعاً يا عزيزي موضوع طويل ما سمحت لقاءاتنا المتعددة التطرق له، أتمنى أن يسمح لنا المستقبل بذلك!

ياخى الكلام كتير وما بيخلص…

سأكتفي بهذا القدر وأختم بشعار الثورة؛

 

الثورة ثورة شعب،

لا تفاوض، لا مساومة،

العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.

عاش نضال الشعب السوداني النبيل،

وعاش نضالك يا صديقي واخى الحبيب!

مجدى
منتون، 30 يوليو 2023

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق