مقالات

إبتزاز البنك الزراعي للمزارعين

د.عبدالكريم الهاشمي:

ظل التمويل الزراعي يمثل هاجسا كبيرا للمزارع منذ سنوات عديدة، حيث بذلت الحكومات المتعاقبة جهدا مقدرا في ايجاد حلول مناسبة لهذا الهاجس، فكان واحدا من تلك الحلول إنشاء البنك الزراعي (1959م) كمؤسسة حكومية متخصصة للتصدي لمشكلات تمويل القطاع الزراعي، حيث ظل  البنك يؤدي تلك المهمته بإمتياز لسنوات خلت، بالرغم من العثرات التي واجهته احيانا، وتسببت في فشله وعجزه في تمويل بعض المواسم الزراعية كموسم (2023م)، الذي فشل فيه البنك في تقديم خدمات التمويل للمزارعين بالرغم من التأكيدات التي صدرت عن بنك السودان، والتطمينات المعلنة من لجنة انجاح الموسم الزراعي التي يترأسها والي ولاية القضارف، والتصريحات المتحمسة  الصادرة عن اللجنة المفوضة لمزارعي ولاية القضارف ، حيث اكدت هذه التصريحات مجتمعة الالتزام بتمويل المزارعين، بل كانت اللجنة المفوضة أكثر تفاؤلا حيث اكدت على تمويل المزارعين المتعثرين، إلا ان البنك الزراعي خيب آمال المزارعين وفشل تماما في الوفاء بتمويل الموسم الزراعي (2023م)، ولم تصمد التصريحات الصادرة من الجهات المسؤولة المذكورة آنفا كثيرا، حتى ذهبت ادراج الرياح، الامر الذي جعل المزارعون يبحثون عن مصادر أخرى لسد حاجتهم من التمويل، وهنا لابد من الاشادة ببنك النيل ومصرف المزارع التجاري، اللذين قاما بسد الفجوة التمويلية التي خلقها إخفاق وغياب البنك الزراعي في تمويل موسم (2023م)، مما ساهم في إنقاذ الموسم الزراعي من الفشل الكامل. إكتفى البنك الزراعي في موسم (2023م) بطرح مرابحات (جازولين) بهوامش ربحية عالية، ولحاجة المزارعين الملحة، أقدم بعض المزارعين للاستفادة من هذه المرابحات،  لحاجة بعضهم الى الحصول على المال كمدخل مهم في عمليات التأسيس، وذلك ببيع جزء من جازولين المرابحات في السوق بأسعار تقل عن سعر المرابحة بنحو 40% مما سيضاعف عليهم عبء السداد.
إن مرابحات الجازولين التي اقدم عليها المزارعون إضطرارا، لم تكن الصيغة المثلى والمتعارف عليها في تمويل القطاع الزراعي، بالرغم من ذلك رضيَ بها المزارعون، على امل ان يطرح البنك الزراعي لاحقا، التمويل عبر صيغة السلم المتعارف عليها في تمويل المزارعين، وذلك بناء على الوعود التي أكدت أن البنك الزراعي سيُمول المزارعين عبر صيغة السلم، بل إن البنك الزراعي قد طلب من المزارعين شيك ضمان لعملية السلم المتوقع تنفيذها حال حدث انفراج فيما يواجهه من أزمة، كذلك طلب منهم احضار وثيقة تأمين زراعي (إجباري). فشلت كل الوعود الصادرة من الجهات المذكورة آنفا في تمكين البنك الزراعي من توفير التمويل عبر صيغة السلم، الأمر الذي جعل المزارعون يلجؤون إلى مؤسسات تمويلية أخرى لسد حاجتهم من التمويل، وقد كان، حيث يمموا وجوههم صوب بنك النيل ومصرف المزارع التجاري، فتحصلوا على حاجتهم من التمويل، دون تعقيد في الإجراءات، او بروقراطية في التنفيذ، بل دون إجبارهم بإحضار وثيقة تأمين. بالرغم من فشل البنك الزراعي في طرح التمويل عبر صيغة السلم تفاجأ المزارعون بخطابات صادرة من البنك الزراعي يطالب فيها المزارعين بسداد كميات من الذرة (سلم)، تتفاوت من مزارع لآخر، علما بأن المزارعين لم يُبرِموا عقودات سلم مع البنك الزراعي، ولا مع أي جهة ذات صلة بالبنك الزراعي، كما لم يتلقوا مبالغ من البنك الزراعي او من أي جهة أخرى تتعلق ببيع سلم، وعند استجلاء الأمر اوضح البنك الزراعي ان كميات الذرة المطلوبة تخص مستحقات شركات التأمين، في مخالفة واضحة للشرع والقانون والعرف.
إن المرابحة عملية تجارية بحتة، يتم فيها البيع بزيادة ربح على الثمن الأول للسلعة المباعة (الجازولين مثال)، ولِمَا تمتاز به المرابحة من ربحٍ مضمون، وأجلٍ قصير للأسترداد مقارنة ببقية صيغ التمويل، أصبحت هي الصيغة الشائعة التطبيق في البنوك، حيث تطبق بمعدل لا يقل 75% من عمليات التمويل مقارنة بالصيغ الأخرى، بل إن بعض البنوك تطبقها بنسبة 90% فالمرابحة تعد أفضل وسيلة لتشغيل الأموال لدى مؤسسات التمويل.
إن المخاطر التي تحيط بالمرابحة، هي مخاطر في اغلبها ادارية يمكن السيطرة عليها ولا تستوجب تأمينا كما في صيغة السلم التي تكتنفها مخاطر وكوارث طبيعية. إن ما يجدر ذكره أن وثيقة التأمين الزراعي تغطي فقط المخاطر والكوارث الطبيعية وليس المخاطر الإدارية التي يمكن إدارتها والتغلب عليها.
لا شك أن التأمين الزراعي له أهمية، حيث  تغطي وثيقة التأمين الخسائر الناتجة من الكوارث والمخاطر الطبيعية (اكرر الطبيعية) التي يعجز المزارعون في السيطرة عليها، مثل انخفاض الانتاج بسبب الأمراض (الهاموش) أو الفيضانات، او التلف الذي تسببه الآفات الحشرية (الماسح)، او الاضرار الناتجة من زيادة معدلات هطول الأمطار، ولكن هذه الاهمية ما زالت نسبية لدى المزارعين.
إن عقد التأمين يعتبر من العقود التي تعرف قانونا بالعقود المسماه، وهي  عقود خصها المشرع باسم معين و بنصوص تنظم أحكامها وذلك لشيوعها بين الناس حيث  ان طرفي العقد معلومين، هما المزارع وشركة التأمين، كما أن التزاماتهما محددة وإن أي إخلال يحدث في الالتزامات المتفق عليها والواردة في وثيقة التأمين، ينبغي أن تتم معالجته عبر القضاء وليس عبر البنك الزراعي الذي لا يمثل طرفا في العقد (الوثيقة) لا بالأصالة ولا الوكالة، وليس هو الجهة المخوّل لها فض النزاعات بين المزارعين وشركات التأمين، فلماذا يمارس البنك إبتزاز المزارعين بمطالبتهم بسداد كميات من الذرة (سلم) لصالح شركات التأمين.
إن صيغة السلم تعتبر من الأدوات المالية الإسلامية المستخدمة في التمويل، وقد حددت الشريعة طريقة تنفيذها، والاشتراطات والضوابط الواجب الالتزام بها في التنفيذ، دون تغيير او التزييف. إن السلم يعني أن يُسلم المشتري عوضا حاضرا (مبلغ من المال نقدا) بعوض موصوف في الذمة (ذرة مثلا) إلى أجل مسمى، اي (نقد مقابل سلعة)، ولا يجوز أن يكون رأس مال السلم،  دينا في ذمة المسلم إليه (المزارع) كالقيمة المالية للتأمين التي تعتبر ديناً في ذمة المزارع، وبهذا لا تصلح ان تكون مالاً لشراء سلعة (ذرة) عبر صيغة السلم. كذلك من الشروط المهمة في عقد السلم أن يكون مقدار المسلم فيه (الذرة) معلوم من حيث المقدار (عددا أو كيلا) وهذا ما لم يحدث، بل إنّ الذي حدث هو، أن قام البنك الزراعي من جانبه فقط، بتحويل قيمة التأمين الى عدد من جوالات الذرة بسعر لم يتم الاتفاق عليه اصلا (32000 جنيه للجوال) حُدد من جانب البنك فقط، دون اعتبار لرضا المزارع الذي يعتبر ركن من اركان العقد، يترتب عليه إنشاء أي أثر قانوني، حق أو التزام، فغياب ركن الرضا يُبطل العقد، وكما هو معلوم أن الأصل في العقود رضائية أطرافه. إن الضابط في تنفيذ كل الصيغ الاسلامية، هو اهلية المتعاقدين التي يُميزان من خلالها طبيعة العقد المبرم بينهما (محل العقد) أي الأمر الذي تم عليه التعاقد (سلم ام تأمين) ومحل العقد يعتبر ركن من اركان العقد غيابه يبطل العقد ايضا. وبما أن المزارعون يتمتعون بأهلية معتبرة شرعا وعقلا، فإنهم يؤكدون أن ما تم بينهم وبين شركات التامين هو ليس عقد سلم، إنما عقد تأمين زراعي (وثيقة) تم احضارها كواحدة من متطلبات الحصول على التمويل ليغطي مخاطر صيغة السلم حال تنفيذها من البنك الزراعي وقد فشل في ذلك،
وبالتالي يعتبر عقد التأمين غير ملزم لأنه من العقود التي لا تنعقد الا بعد قيام المستأمن بدفع القسط الأول، فمن أين دفع البنك قسط التأمين وهو لم يمنح المزارعين تمويل.
تولّى البنك الزراعي في الأعوام السابقة مهمة خصم استحقاق شركات التأمين  (نقدا وليس عينا) وذلك بعد ان يغذى حسابات المزارعين بالقيمة المالية (للسلم) المتفق عليه بين البنك والمزارع وفقا للعقد المبرم بينهما، هذا الاجراء يعتبر أمرا طبيعيا  ومنطقيا ولا غبار عليه، ولم يعترض عليه المزارعون، أمّا أن يفشل البنك الزراعي في التمويل بصيغة السلم، ويفاجئ المزارعون  بسداد كمية من الذرة لصالح شركات التامين نظير استحقاق التأمين، إنه لأمر عُجاب، ولا يليق بمؤسسة حكومية كالبنك الزراعي المُناط بها  توفير التمويل اللازم، في الوقت المناسب، وبالحجم الكافي، وبالتسهيلات التي تجعله سهلا ويسيرا،
أن تصنع الازمات التي تصل حد الابتزاز للمزارعين.
إن التمويل الزراعي عملية إقتصادية هدفها رفع حياة المزارعين اقتصادياً واجتماعياً، وذلك بتوفير القروض لهم بشروط ميسرة، وتقديم النصح والمشورة والإرشاد للمقترضين، ومساعدتهم على زيادة دخلهم من الإنتاج الزراعي، وتقوية أهليتهم للإقراض، وتعزيز قدرتهم على سداد القروض، وهذا ما ينبغي أن تقوم به مؤسسات التمويل الحكومية المتخصصة كالبنك الزراعي وليس الترصد والاصرار على خلق الازمات لهم.
إن فشل البنك الزراعي في تمويل الموسم الزراعي 2023م انعكس سلبا على أداء البنك، وعلى الانتاج الزراعي، ولا تلوح اي بشريات في الافق لتجاوز العثرات التي اعترضته في العام السابق (2023م) وأدت لفشله، مما يشير إلى أن المزارعون سيواجهون ذات المشكلات في توفير التمويل الكافي وفي الوقت المناسب، مما يضطرهم من جديد للجوء لمصادر أخرى عالية التكاليف، علما ان بدائل التمويل المؤسسي مثل بنك النيل ومصرف المزارع التجاري لا يوجدان في كثير من المناطق الزراعية. إن غياب الموجهات العامة للسياسة التمويلية، والنص الواضح والمعلن للشروط المطلوبة للحصول على التمويل، ظل يشكل حالة من الارباك لكثير من المزارعين والمؤسسات التمويلية.
تظل  قضية التأمين الاجباري إحدى التحديات التي تواجه المزارع، وقد نجحت في السابق لجان واتحاد المزارعين في جعل التأمين إختياريا، وهذا هو الوضع الطبيعي والصحيح، إلا أن شركات التأمين استطاعت بممارسة بعض الضغوط أن تنجح في فرض التأمين من جديد على المزارعين الممولين من البنك الزراعي فقط، المؤسسة الحكومية التي يناط بها بذل الجهد في تذليل ما يعترض المزارع وليس جلب الازمات والتحديات امامه.
[ ] سيلتزم المزارعون بسداد ما عليهم من مرابحات طوعا وذلك للوفاء بعقد المرابحة المبرم بينهم وبين البنك، كذلك سيلتزمون بدفع استحقاق شركات التأمين إذا ما التزمت الشركات بتعويض المزارعين عن الخسائر التي لحقت بهم جراء مرابحات الوقود (الجازولين). لا يُعوِّل المزارعون على اللجنة المفوضة للمزارعين كثيرا، والتي فشلت في العام السابق في ايجاد حلول لمشكلة تمويل المزارعين سيما في المناطق التي لا توجد فيها بدائل للبنك الزراعي، حيث ما زالت وعودهم السراب في العام السابق، والتي اقاموا بها الدنيا ولم يُقعِدوها، تتراءى  للمزارعين.
بالطبع لن يصمت المزارعون عن هذه المخالفة، ولكن ربما يتعرضون لحملات ترغيب وترهيب من البنك الزراعي لشق صفهم وإضعاف موقفهم.
إن تجديد ثقة القيادة العليا للدولة في والي ولاية القضارف الاستاذ محمد عبد الرحمن لرئاسة لجنة انجاح الموسم الزراعي (2024م) لم يكن عبثا، كما ان اختيار احد مزارعي القضارف الاستاذ السر الصعب لرئاسة اللجنة المفوضة لمزارعي السودان لم يكن هو الآخر اعتباطا، وذلك لما لولاية القضارف من أهمية في سد حاجة البلاد من الغلال، سيما في ظل المهددات التي تشير الى حدوث فجوة غذائية وذلك بسبب ما تشهده البلاد من حرب، إذ أن ولاية القضارف هي الولاية التي يعوّل عليها في التصدي لأي فجوات غذائية تحدث في البلاد، وهذا الوضع يحتم على الدولة ومؤسساتها الإهتمام والعمل على حل المشكلات التي تواجه الجيش الاخضر (المزارعون) في ولاية القضارف وفي الولايات الأخرى والتي في مقدمتها اشكالات التمويل وتوفير مدخلات الانتاج الأخرى مثل البذور الحسنة، كذلك توفير الجازولين والمبيدات باسعار مدعومة وليس عبر المرابحات. إن التصدي لهذه الاشكالات والعمل على حلها يكمن في دعم وتمكين البنك الزراعي بتذليل كل العثرات التي تعترضه في تقديم كل التسهيلات المطلوب لانجاح الموسم الزراعي (2024م)

Krimhashimi5@gmail.com 0912677147

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق