مقالات

تفعيل الإختصاص القضائي الوطني في السودان لمساءلة مرتكبي جرائم حرب 15 أبريل

د.رجاء عبدالله الزبير:

تفرض العديد من الصكوك الدولية على الدول إتخاذ تدابير على المستوى الوطني لتقرير إختصاصها بنظر الجرائم الدولية التي تُشكل إنتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ،وقد تضمنت ديباجة نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية نصاً يُلزم الدول بمقاضاة مرتكبي الجرائم الخطيرة التي تُثير قلق المجتمع الدولي على نحو فاعل،من خلال تدابير تُتخذ على الصعيد الوطني،وأن تمارس كل دولة ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسؤولين عن إرتكاب الجرائم الدولية.
وأشار الاعلان العالمي لحقوق الانسان الى أن لكل شخص الحق في اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أي أعمال تنتهك الحقوق الاساسية التي يمنحها إياه الدستور،كماتضمن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسة نصاً يفيد بان لكل فرد الحق في أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من محكمة مختصة مستقلة حيادية منشأة بحكم القانون، والعقاب عن أي فعل يشكل جرماً وفقاً لمبادئ القانون العامة التي تعترف بها جماعة الامم،ونص الميثاق الافريقي لحقوق الإنسان والشعوب على أن حق التقاضي مكفول للجميع ويشمل الحق في اللجوء للمحاكم الوطنية المختصة للأعمال التي تُشكل خرقاً للحقوق المعترف بها والتي تضمنتها الإتفاقيات والقوانين واللوائح والعرف السائد،وأكد الميثاق العربي لحقوق الانسان بأن جميع الناس متساوون أمام القضاء وحق التقاضي مكفول لكل شخص على إقليم الدولة.

بالرغم من أن الصكوك الدولية قد فرضت على الدول ضرورة قمع الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، فإنها لم تُملي عليها ما يجب أو ما لا يجب فرضه من عقوبات بل تركت لكل دولة حرية ممارسة سلطتها التقديرية في تحديد العقوبة تبعاً لظروف كل جريمة

ومن المعلوم أن القانون الجنائي الدولي وتطبيقه في المحاكم الدولية له دوراً مكملاً للولايات القضائية الجنائية الوطنية، وتتزايد أهميته في تفسير القانون الدولي الإنساني وتطبيقه في إعمال المسؤولية الجنائية الفردية عن جرائم الحرب فضلاً عن الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي تُرتكب أثناء النزاعات المسلحة،وقد تضمنت إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقب عليها أحكاماً تلزم الاطراف المتعاقدة بإتخاذ التدابير التشريعية اللازمة،والنص على عقوبات جنائية ناجعة تتنزل لمرتكبي الجريمة طبقاً لدستور كل دولة ،وتتدخل المحاكم الجنائية الدولية حصراً حينما لا تتوفر لدى الدولة الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق والمقاضاة عن الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني أو القدرة على ذلك.

يعاني السودان أزمة إنسانية كبرى بسبب الحرب المستعرة منذ 15 ابريل 2023 والتي يكتوي بنارها السكان المدنيين ، مارست قوات الدعم السريع، التي فقدت الشرعية العديد من الفظائع ،بهدف تفكيك الدولة السودانية وإلحاق الأذى بالسكان المدنيين ولا يشغل تلك القوات تحقيق النصر، بل ممارسة اكبر قدر من العنف من قتل وتعذيب ،وتطهير عرقي وغيرها من الإنتهاكات.

في ظل النزاع المسلح طويل الامد الذي يشهده السودان منذ 15 أبريل العام الماضي أصبحت مسألة ممارسة الإختصاص القضائي الوطني لمقاضاة مرتكبي الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني أكثر أهمية من أي وقت مضى ، لضمان محاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى ،يجب علينا العمل على موائمة نظام العدالة الجنائية الوطنية مع متطلبات القانون الدولي الإنساني ،وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف لابد من تعزيز النظام القضائي من خلال تدريب وكلاء النيابة والقضاة، وتحديد ما إذا كان يجب أن تتم المقاضاة لدى المحاكم العادية ضمن النظام القضائي في الدولة أم في محاكم ذات ولاية قضائية خاصة،ومن الضروري تحديد معايير إختصاص المحاكم المكلفة بالفصل في الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني،ويجب النظر في إمكانية إنشاء محكمة عسكرية يتحدد إختصاصها وفقاً لأهلية مرتكب الإنتهاك،على إعتبار أن قوات الدعم السريع تصنف كقوات شبه عسكرية، مع إستثناء المدنيين المشاركين مع تلك القوات ،أم تكون محاكم مدنية ،وتحديد المواصفات والضوابط الخاصة بتلك المحاكم ،والقواعد الإجرائية القابلة للتطبيق، ونطاق إختصاصها وفقاً للإقليم والزمن،وبالتالي تحاكم أي شخص إرتكب إنتهاكاً ، مع تحديد الإجراءات والسلطات الممنوحة لها.
ومن الضروري معالجة كيفية التعامل مع أوجه الخلاف المحتملة بين المبادئ العامة للقانون الجنائي،ومبادئ القانون الدولي الإنساني، على سبيل المثال يجب النظر في كيفية التعامل مع عدم رجعية القانون،والتناسب بين العقاب والتهم،والتقادم المسقط للدعوى،والحصانة،وما إلى ذلك من مسائل معقدة،مع التأكد على قدرة المحاكم لتوقيع عقوبات تتسم بالملاءمة والتناسب.

وينبغي وضع الإعتبار لضرورة توزيع الإختصاص بشكل محدد بين الاجهزة القضائية التقليدية الواردة ضمن النظام القضائي، والمتمثلة في المحاكم الجنائية الخاصة بمعاقبة الإنتهاكات الجسيمة، والاجهزة شبه القضائية والتي تسمى بالاجهزة الإنتقالية مثل لجان الحقيقة والمصالحة ،وتوضيح الخط الفاصل بين تلك الاجهزة،ومعايير إختيار الجهاز المختص،والسلطات الممنوحة له وكيفية التعامل مع أوجه الخلاف المحتملة ،من حيث الملاءمة والتناسب والجبر وإرضاء الضحايا وضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب ،حتى لا يؤدي إلى تقديم صورة مشوهة عن العقوبات.
في هذا الإطار يمكن للسودان الإستفادة من تجارب بعض الدول على المحيط الإقليمي،مثل رواندا التي أصدرت تشريعاً لإنشاء محاكم مجتمعية أُطلقت عليها أسم “محاكم الجاكاكا” لمعالجة القضايا المتراكمة من الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني ،قدمت هذه المحاكم فرصة للناجين من الإبادة الجماعية لعرض قضاياهم في وسط منفتح وقائم على المشاركة، وشكلت تلك المحاكم خطوة هامة تجاه المصالحة الوطنية وحل أزمة السجون في رواندا،وعلى المستوى الوطني يمكن تعزيز دور محاكم المدن والأرياف التابعة للسلطة القضائية السودانية ومنحها سلطات سماع شكاوى ضحايا الإنتهاكات الجسيمة على المستوى القاعدي ثم رفع التقارير للمحكمة الجنائية المختصة للفصل في الدعاوى .

ومن التحديات التي يمكن ان تكون عائقاً عند التطبيق هي عدم وجود ممارسة عملية تُخلق من خلالها مؤشرات واضحة بشأن التدابير التي يمكن إتخاذها على المستوى الوطني في ظل نظام عالمي وأسع الإنتقائية لا يتفق مع أبسط قواعد العدالة التي تقضي بان يطبق القانون على الجميع دون تمييز، يجب أن نأخذ في الاعتبار الإخفاقات المحتملة بسبب تداخل الإعتبارات السياسية مع القانونية الامر الذي يمكن أن يقيد الدولة عن القيام بمسؤولياتها في المعاقبة على إنتهاكات القانون الدولي الإنساني وتعويض الضحايا بأفضل طريقة ممكنة.
نخلص مما سبق الى ضرورة أن يضطلع السودان بدوره كاملاً لتسريع تنفيذ ولايته في مقاضاة مرتكبي الإنتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني من خلال النص عليها في القوانيين الوطنية بشكل أكثر تحديداً ،بالإضافة إلى ذلك يجب التركيز على تدريب منفذي القانون في مجال إستخدام الأساليب الحديثة، لضمان فعالية التنفيذ،ويمكن الإستفادة من الدعم المقدم من الإتحاد الافريقي للتدريب في مجال العدالة الإنتقالية ، وخاصة بعد إستعادة مشاركة السودان في أنشطة الاتحاد الافريقي التي تم تعليقها بموجب المادة 30 من القانون التأسيسي للإتحاد الافريقي.
في الختام يُعد تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية أساسياً لتحقيق العدالة والإنصاف،من خلال هذه الجهود المشتركة يمكن للسودان أن يمضي قُدماً نحو مستقبل اكثر عدالة وإنصافاً،مع ضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب وتقديم العدالة للضحايا.

19يوليو 2024

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق