مقالات

الجنرال في متاهته السياسية..!


عبدالله رزق ابوسيمازه:

مع أن الجنرال عبدالفتاح البرهان لم يأت للسلطة بأي من السبيلين: (الانتخابات أو الوفاق الشامل)، فإنه أجاز لنفسه أن يحدد خيارات الآخرين للوصول للسلطة، وأن يلزمهم بأحدهما. أي دكتاتورية تلك ،وأي وصاية؟ ويخشى أن يكون قد استمد تلك الحكمة من تجربته في الانفراد بالحكم ثمانية أشهر حسوما.
ويستبعد البرهان ضمنا، السبيل الثالث، سبيل 25 اكتوبر الدموي،(التطبيق المفضل للمغامرين من العسكريين لتوزيع السلطة فيما بينهم)، والذي سيبقى سالكا ما بقي للعسكريين دور في السوق وفي السياسة.
فالبرهان الذي فشل في إدارة البلاد، ومعالجة مشكلات الأمن والاقتصاد وغيرها منذ أن انفرد بالحكم، دون تفويض، ضاربا عرض الحائط بالشراكة مع المدنيين وعهودها، وفشل في تصحيح المسار الذي ادعاه، والذي لم يكن غير ردة شاملة على الثورة وتوجهاتها، وأقر بذلك الفشل، ما كان له أن يخوض في التنظير لما ينبغي أن يكون عليه المخرج من المجهول الذي تردت اليه البلاد بقفزة الخامس والعشرين من أكتوبر.
من يسمع استهانته بالتظاهرات والتقليل من شأنها، في سياق تصريحه الذي حدد فيه بشكل قاطع طريقي الوصول للسلطة، سيظن -فيما يتعدى المحاولة المضمرة لتبرير التشبث بالحكم والتسلط على الشعب باسم الجيش- أن البرهان لم يتوسل -يوما- بحشد ولم يستعن بمتظاهرين للاعتصام أمام القصر، ولتتريس طريق الميناء أو شارع الجمهورية. وكأن لم ينعق ناعقهم: “الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع”.
خلافا لما يومئ إليه البرهان، فإن بالمظاهرات يفعل الشعب السوداني مايريد ويصنع التاريخ، في الوقت نفسه. فقبل ثلاث سنوات من الآن، أجبرت المظاهرات البرهان على التراجع عن أول انقلاب خديج له، والتراجع عما اتخذه من قرارات انقلابية، والعودة لطاولة التفاوض مع قوى الحرية والتغيير. ذلك هو مغزى الاحتفاء الوطني الجليل، نهار الخميس، بذكرى 30 يونيو، لكن أكثر الناس لا يعقلون.
وبالمظاهرات التي زلزلت سلطان البشير عقب إعلانه حالة الطوارئ، في أيامه الأخيرة وفرضت تنحيه، وجد البرهان فرصته ليتوسط المشهد السياسي إلى حين.
البرهان لم يتطور سياسيا ولم يعد بمقدوره التفكير خارج الصندوق الأمني، لذلك فهو لا يمتلك أي رؤية لمعالجة أسباب الاحتجاجات الشعبية المتواصلة منذ شهور، سوى استنفار القوات المحصنة ضد المساءلة والمدرعة بشرعنة الإفلات من العقاب، باسم إنفاذ إجراءات الطوارئ.

“العساكر للثكنات والمليشيات كافة تنحل”
لعل من أبلغ ماتحفظه ذاكرة الفيديو بهذه المناسبة مشهد إحدى الكاميرات وهي توثق تحطيم نظامي لكاميرا جارة قبل أن ينهال عليها هي الاخرى تحطيما!
الله أعلم لأي “كبيرة ” يتم إعداد ذلك المسرح بكل تلك الفجاجة!؟.
يبدو أن البرهان لايدرك ما تعنيه الانتخابات كممارسة ديموقراطية، إذ لابد أن يكون له العذر وهو الذي قفز للسلطة عن طريق التغلب في 25 أكتوبر، واستمر على رأسها وهي توغل في سفك دماء ممنهج حتى تجاوز عدد الشهداء المائة منذ ذلك الحين.
وعندما يتحدث عن انتخابات لتداول السلطة فإن مثله في ذلك مثل من يدخل بالشباك و”يتطوع” لتنظيم دخول الآخرين بالباب.
البرهان وهو يقرر الوفاق الشامل، نسي على غير العادة، أو أسقط متعمداً استثناء المؤتمر الوطني الذي أعاد كوادره للخدمة للتمكين مجدداً وأعاد لهم ما استردته منهم للدولة لجنة التفكيك.
ليس ثمة فرصة ولا بصيص أمل للتوافق الشامل بين هؤلاء الذين أسقطتهم الثورة وبين الثوار الغاضبين على إيقاع: “أي كوز ندوسو دوس”.
وليس ثمة إمكانية في الواقع لقيام انتخابات تحت إشراف البرهان وتحت إدارة سلطته الانقلابية بدلالة الحراك الجاري في الشارع. وإذا لم يصدق ذلك فليجرب.
الانتخابات تحتاج إلى وفاق إلى مستوى من الوفاق الشامل وإلى مطلوبات أدناها تنحي البرهان وسلطته الانقلابية وتحقيق السلام واستتباب الأمن وتسريح المليشيات وإعادة النازحين واللاجئين إلى ديارهم والتوافق على قانون للانتخابات وعلى حكومة تدير العملية الانتخابية، إلى غير ذلك من مهام الانتقال التي تستهدف خلق بيئة مواتية لانتخابات ديموقراطية ذات مصداقية.
البرهان ليس بمقدوره تنظيم انتخابات، أياً كانت، البرهان ليس ديمقراطيا بما فيه الكفاية ليكون قيما علي إجراء انتخابات ديمقراطية، فطوال الثمانية أشهر الماضية، لم يبد أي حماس أو قبول لممارسة الآلاف من المواطنين حقهم الديمقراطي في الاحتجاج السلمي والمطالبة بحكم مدني على أنقاض انقلاب 25 أكتوبر الدموي.
حسبه، أن يدافع عن بقاء انقلابه، وتمديد أجله يوما بعد يوم بإغلاق الكباري وقطع الانترنت واستخدام العنف المفرط والقوة المميتة في مواجهة المحتجين السلميين.
والانقلاب (الخديج) و(الخلاقة) في رواية أخرى، يدخل شهره التاسع، يبدو النظام الذي ارتجلته المنظومة الانقلابية المتسلطة علي الشعب باسم الجيش، مفلساً إلا من شهوة القتل ونزعة القمع، فاقداً للصلاحية وعاجزاً عن السيطرة على الأوضاع عامة وعلى الحكم وساقطاً تاريخياً.
ويبدو أن القمع والكبت وسفك الدماء المنهحي الذي يتوسل به للبقاء والاستمرار، يفقد جدواه ونجاعته موكبا بعد موكب، وهو مأزق حقيقي للنظام، الذي ينوء بحمل مسؤولية كبيرة تجاه مجازر وأعمال عنف تعرض لها أبناء وبنات الشعب السوداني ترقى لمستوى الجرائم ضد الإنسانية ويراهن على التشبث بالحكم للاحتماء من المساءلة.
وفي المقابل، يبدو الشعب السوداني، في غمرة إحياء ذكرى 30 يونيو موحداً أكثر من أي وقت مضى، رغم التصدع في علاقات بعض قواه السياسية والنقابية، وأكثر وعياً بأهدافه فاعلا، نشطا، جماعيا ومبادرا، بما لايدع مجالا لاكتمال نمو الانقلاب الخديج (مالك زمام أمره ) بالمعنى الحرفي للعبارة، وأقوى تصميما لتحقيق أهدافه، بكل ما يتطلبه ذلك من تضحيات بشكل خاص.
إن الشارع الذي يجدد عنفوانه موكبا إثر موكب، يبدو مهيأ لإحباط أي عملية سياسية تقصر عن هدف إنهاء الانقلاب، واستعادة مسار الانتقال الديمقراطي بقيادة مدنية، معززا خياره في العصيان المدني والإضراب العام في إطار الانتفاضة، وفي ضوء استشهاد المزيد من الشباب في ذكرى 30 يونيو، والذين بلغ عددهم السبعة، في أحدث المآثر الدموية للمنظومة الانقلابية المتسلطة.
تزداد الصعوبات التي تواجه اللجنة الثلاثية بقيادة المبعوث الأممي فولكر بيرتس، في سبيل تفكيك الأزمة السياسية التي دخلتها البلاد إثر انقلاب 25 أكتوبر إذ تؤكد الواقعة الدموية المجزرة الجديدة مرواغة المنظومة الانقلابية المتسلطة وعدم التزامها بمطلوبات التسوية التي تستهدفها اللجنة الثلاثية، وفي مقدمتها احترام حق المواطنين في التظاهر السلمي والامتناع عن استخدام العنف في مواجهة المحتجين السلميين.

abusimazeh@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق