مقالات

إشكالات وتشوهات التمويل الزراعي: الحواتة نموذح

د.عبد الكريم الهاشمي:

تعتبر منطقة الحواته واريافها المتشاسعة، من أهم مناطق الزراعة في ولاية القضارف، لما تتمتع به من تنوع في حزمة التركيبة المحصولية للمحاصيل التي تزرع في العروة الصيفية والتي تعتبر ذات ميزة نسبية عالية، مثل الذرة، والسمسم، والدخن، وزهرة الشمس، والقطن، والفول السوداني، بالإضافة إلى محاصيل العروة الشتوية، والتي صار أشهرها محصول التسالي، كذلك تتميز بالإنتاج البستاني الوفير، ولذلك تعتبر من اهم المناطق في ولاية القضارف، بل تمثل رافدا داعما للاقتصاد القومي، ومساهما في تأمين الأمن الغذائي، وفي زيادة حجم الصادر الزراعية.
يتفهم المزارعون الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، والتي انعكست سلبا على البنك الزراعي الذي يمثل أكبر مؤسسة مصرفية متخصصة في تمويل المشروعات الزراعية في السودان، حيث تراجع تمويل الموسم الزراعي في الموسم الحالي 2022م بنسبة (٥٢٪) عن العام السابق، فضلا عن تأخير تدفق عمليات التمويل، وهذا بالطبع سيؤثر على المساحات المزروعة ومن ثم حجم الانتاج لهذا الموسم.
يعتبر التمويل مدخل حاسم في عمليات الإنتاج الزراعي، هذا إذا ما تمت فيه مراعاة بعض العناصر المهمة التي تعظم الإستفادة منه وترفع كفاءة إستخدامه، مثل حجمه Volium (من حيث الكم) وتوقيته Timing (الزمن الذي يطرح فيه)، ووفرته Availability، والضمانات collaterals المطلوبة للحصول عليه. تعتبر هذه العناصر من الإشتراطات الضرورية لنجاح عملية التمويل، إلا أنه عادة ما يحدث فيها مجتمعة أو في بعضها تراخي أو قصور من المؤسسات المانحة للتمويل أو إهمال وتواني من الممولين. فحجم التمويل من حيث الكفاية Adequacy لهذا العام جاء مخيبا لآمال المزارعين إذ لا يتناسب مع حجم المساحات المزروعة، ولا يفي بتكاليف عمليات التحضير التي تسبق التأسيس دع عنك
المدخلات الزراعية الخاصة بمرحلة التأسيس، وعمليات النظافة (الكديب) وعمليات الحصاد سيما لأصحاب المساحات الكبيرة، فليس من المعقول ان يمول الفدان بقيمة (350 جنيه) لكل العمليات، إذ منح ملاك الحيازات الكبيرة التي تبلغ (1000 فدان) مبلغ (3،500،000 جنيه) وأصحاب الحيازات التي تتجاوز ال (500 فدان) مبلغ (1،750،000جنيه) اما صغار المزارعين منحوا مبلغ يتراوح ما بين (400،000 – 750،000 جنيه) في إطار التمويل الأصغر حيث لم تلتزم المصارف بالقيمة التي نصت عليها سياسات بنك السودان حيث نص المنشور رقم (5/2022) الصادر من بنك السودان بتاريخ 12 ابريل 2022 على ان يكون سقف التمويل الأصغر للقطاعات الإنتاجية (الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، القطاع الصناعي، القطاع الحرفي) مبلغ 1,500,000 جنيهاً ( واحد مليون وخمسمائة ألف جنيه) وهذا ما لم تفي به المصارف. يضاف لضعف حجم التمويل وضعف قيمتة أن التوقيت او الزمن الذي طرح فيه كان توقيتا غير مناسب حيث بدأ التمويل لهذا العام 2022م في الاسبوع الثاني من شهر أغسطس وبالطبع سيستمر حتى سبتمبر حيث كان يفترض أن يكون التوقيت الذي طرح فيه التمويل توقيتا لتمويل المرحلة الثانية من مراحل الزراعة الصيفية وهي المرحلة الخاصة بالكديب. من المعلوم إن التحضير لتأسيس المحاصيل الصيفية يبدأ في مايو ثم تليها مرحلة التأسيس للمحاصيل (الزراعة) والتي تبدأ في يونيو وهذا يبين أن المؤسسات التمويلية وبالطبع البنك المركزي لم تراعى هذه التوقيتات وهذا ربما يتسبب في فشل الموسم الزراعي او يؤدي إلى ضعف حجم الإنتاج، ومن ثم يكون سببا في تعثر المزارعين وتعرضهم للمساءلة القانونية التي عادة ما تنتهي بهم، إما للسجون، او لفقدان ممتلكاتهم، او الحرمان من التمويل مستقبلا. كذلك يعاني المزارعون الأمرين في سهولة الوصول Accessibility لمؤسسات التمويل وذلك إما للبرقراطية التي تسيطر عليها، او للقيود والإشتراطات الخاصة بالحصول على التمويل، أو التمييز Discrimination بين الراغبين في الحصول على التمويل المبني على الكفاءة المالية وموثوقية العملاء او بعض الممارسات التي تندرج تحت الفساد الإداري. إن الضمانات الرئيسية المطلوبة لدى مؤسسات التمويل للحصول على التمويل تتمثل في الرهن (عقار او منقول)، او الكفالة الشخصية (ضمانة شخصية)، وهي ضمانات لا غبار عليها، إذ تتوافق مع ما شرعته القوانين والاعراف لضمان الحقوق، لكن يصاحب إجراءاتها تعسف كبير سيما في حالة الضمان الشخصي، ففي حالة فشل المدين، تنتقل مسؤولية الدين مباشرة للكفيل (الضامن) ويصبح هو المسؤول الأول والمباشر عن سداد الدين بالرغم من وجود الشخص المضمون (المدين) وتمتعه بكامل حريته دون ان يتعرض لأي مساءلة من البنك (صاحب الدين)، بل تطال الضامن بعض الإجراءات المتعسفة كعقوبة لعدم وفاء مكفوله، ادناها حرمانه من التمويل ما لم يسدد كفيله (مضمونه) ما عليه من إلتزام تجاه المصرف مهما كانت سلامة موقف الضامن من السداد، فيحرم من التمويل لمجرد انه ضمن شخص آخر تعثر في سداد دينه، وهذا الإجراء فيه مخالفة لمبدأ الكفالة او الضمان الشخصي حيث يلزم الضامن في حالة هروب المضمون او إختفائه فقط بإحضار المضمون او الشخص الذي كفله وإذا عجز تنتقل إليه المسؤولية، أما أن يتنصل البنك من واجبه في المطالبة بمديونيته مباشرة من المدين، ويحيل المسؤولية مباشرة للضامن بالرغم من وجود المضمون، بل يستخدم البنك الضامن كبوليس لملاحقة مضمونه، لعمري امر ينافي العدالة والإنصاف والوجدان السليم، ويقلل المروءة بين الناس ويضيع فرص زيادة حجم الانتاج. أما الضمان بالرهن، فيعاني فيه المزارعون في إكمال إجراءاته الأمرين، فبعد موافقة البنك بقبول الرهن، تبدأ رحلة الإجراءات الديوانية المتعلقة بإكمال عملية الرهن للبنك مثل الإجراءات الخاصة بمصلحة الاراضي، ومكتب التسجيلات، والتوثيق لدى المستشار القانوني للبنك المعين، ثم بعد ذلك يلزم الممول (المزارع) بالسفر لرئاسة الولاية لتوثيق عقد الرهن لدى الإدارة القانونية، وهذه الإجراءات تتسبب في إرهاق الممول ماديا وجسديا وتعطل إجراءاته الخاصة بالتمويل لأيام وذلك إما لإنقطاع الطرق بسبب الامطار، او البرقراطية التي تصاحب مثل هذه الإجراءات، فعلى المصارف أن تسعى لمعالجة إكمال هذا الإجراء بطرق عديدة لمصلحة المزارع تعفيه من رهق السفر وهدر المال والوقت. على صعيد آخر فإن تعدد رسوم الرهن وارتفاع قيمتها يعد من المشكلات الكبيرة التي تواجه المزارعين، حيث يدفع المزارع 10% من قيمة الرهن كرسوم لمكتب تسجيلات الاراضي و 10% لمصلحة الاراضي ورسوم توثيق للإدارة القانونية تتراوح ما بين (40000 – 60000 جنيه) هذا بالإضافة للرسوم التي يتحصلها المستشار القانوني للبنك، فمجموع هذه الرسوم يمثل عبئا على المزارع وتساهم في إرتفاع تكاليف الغرض. من المعوقات التي تواجه المزارع في التمويل إرتفاع معدل الفائدة في مرابحة الوقود (الجازولين) حيث يتقاضى البنك اكثر من 18% في فترة زمنية لا تتجاوز ثمان اشهر (8 شهر)، دون فترة سماح لضمان بدء الإنتاج والتدفقات النقدية للمشروع.
إن غياب الموجهات العامة للسياسة التمويلية والنص الواضح والمعلن للشروط المطلوبة للحصول على التمويل تسبب في حالة ارباك لكثير من المزارعين. كذلك فإن إنخفاض حجم التمويل وعدم كفايته جعل المزارعين يفكرون في بدائل أخرى لسد حاجتهم من التمويل عبر الإقتراض من الأفراد عبر عملية تعرف محليا ”بالكسر او الكتفلي” والذي يبلغ فيها هامش الربح أحيانا 100% ويكون المزارع في هذه الحالة اشبه (بسلاق البيض) في أفضل الحالات، أما أسوأها فقدانه لممتلكاته للوفاء بالديون التي إقترضها وهذا هو الارجح في مثل هذا التعامل.
إن التمويل عبر المصارف له مطلوبات وإجراءات محددة اذا استوفاها العميل صار مستحقا له بإمتياز، ليس من بينها التمحيص والتدقيق في زمم العملاء وليس من بينها التمييز بينهم، وليس من بينها الإستخفاف بهم والسعي لتعطيلهم مع سبق الإصرار او محاولة إبتزازهم. إن هذه التشوهات والإشكالات التي صاحبت عملية التمويل سيما الإجرائية والقيود التي تفرضها تلك المؤسسات فضلا عن البرقراطية والضبابية التي تحيط بعملية التمويل، قد تتسبب في فقدان المؤسسات التمويلية لإحترامها وتقديرها بين العملاء حيث اصبح الكثيرون يرون أنها تتعامل بمحسوبية، وإنتقائية، ومزاجية قائمة على قاعدة (Like & Dislike) في تقديم الخدمات التمويلية، وهذا ربما يؤدي إلى ظهور السماسرة والطفيليين الذين يضللون العملاء بقدرتهم على تسهيل إجراءاتهم وهذا بالطبع يساهم في الطعن في نزاهة العاملين.
يحمد للعاملين في المؤسسات التمويلية في ظل هذه التشوهات والإشكالات، حسن تعاملهم مع العملاء، وصبرهم على حدة بعضهم في الإلحاح لتنفيذ إجراءاته الخاصة بالتمويل، سيما العاملين بالبنك الزراعي الذين يعملون في ظروف إستثنائية حيث يستقبلون اعدادا كبيرة من كبار وصغار المزارعين في ظل ضغط كبير من العملاء يخرج في كثير من الاحيان من طور اللياقة وهم معذورون في ذلك فكما جاء في المثل “صاحب الحاجة ارعن”.
بالرغم من القصور الذي صاحب عملية التمويل المؤسسي في هذا العام (2022م) من حيث التوقيت والحجم، إلا أنه كان المصدر الرئيس والاساسي للمزارعين، فقد ظهر جليا أن التمويل المؤسسي محددا رئيسا في عملية الإنتاج الزراعي، وتبين ان المزارعين يعتمدون عليه بقدر كبير.

Krimhashimi5@gmail.com 0912677147

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق