علوم وتكنولوجيامقالات

كيف نهضَّت وتطوَّرت اليابان؟

بقلم/ د.الفاتح يس:

تقع اليابان شرق آسيا، بين المحيط الهادئ وبحر اليابان، وشرق شبه الجزيرة الكورية. أطلق الصينيون عليها إسم أرض مشرق – منبع – الشمس، ربما لوقوعها في أقصى شرق العالم.

تعد اليابان من الناحية الاقتصادية واحدة من أكثر الدول تقدمًا في العالم.
وكلكم تعلمون مدى تمتع العلامات التجارية اليابانية مثل تويوتا وسوني وباناسونيك بشهرة عالمية واسعة وفوق الممتازة. ويعد التصنيع أحد ركائز القوة الاقتصادية اليابانية؛ بالرغم من أنها تمتلك القليل من الموارد الطبيعية. لذلك فإن أحد الأساليب التي تتبعها الشركات اليابانية تتمثل في استيراد المواد الخام وتحويلها لمنتجات تباع محليًا أو يتم تصديرها. ندرة الموارد الطبيعية في اليابان جعلتها تعتمد في نمو ونهضة وتطور أقتصادها على المورد البشري؛ فـ المواطن الياباني هو المورد الرئيسي الاقتصادي الذي تعتمد عليه اليابان بتفكيره الإبداعي وسلوكه الإقتصادي وحُبه وتفانيه في العمل.

نهضت وتطورت اليابان بواسطة منهجية إدارية تُسمي منهجية كايزن (Kaizen).

يعود أصل هذا المفهوم إلى الثقافة اليابانية، حيث أن كلمة “كايزن” “Kaizen” باللغة اليابانية تعني التغيير الجيّد أو التغيير للأفضل.

وتنصّ هذه الفلسفة ببساطة على أنّ التغييرات البسيطة المستمرة المدروسة والمخطط لها؛ تؤدّي إلى إحداث فرق كبير وإيجابي في المؤسسة أو في حياة الشخص الملتزم بها.

فلسفة كايزن وصفها المستشار
ماسكي إيماي (مؤسس معهد كايزن): بأنها تعني التحسين المستمر في الحياة الشخصية والمنزلية والاجتماعية والعملية، ولو تم تطبيقها في مكان العمل فهي تشمل الجميع، المديرين والعمال على حد سواء”.

يعتمد نجاح منهجية كايزن دائمًا على الدافع الجماعي القوي. وتكمن فلسفة الكايزن “Kizen ” في التحسين التدريبي والتغيير المستمر لكافة أوجه وأنشطة المنظمة نحو الأفضل، ولكن بدون تكبد الكثير من التكاليف المادية؛ أثناء إجراء هذا التغيير، والمقصود به هو التغيير الذي يتفق مع إستراتيجية المؤسسة ويساهم في تحقيق أهدافها؛ وهنا لابد أن تكون أهداف الفرد وكل العاملون في المؤسسة؛ تتفق مع أهداف المؤسسة، وأهداف المؤسسة تتفق مع أهداف الدولة؛ وهنا يُرفع شعار وأهداف الوطن فوق شعار الأهداف الحزبية والأهداف الشخصية.

وكما أسلفنا الذكر أن كايزن تعني «تُحسِّن باستمرار»؛ لذلك فهي تشمل جميع الوظائف وتشمل جميع الموظفين بدءاً من الرئيس التنفيذي إلى عُمَّال خط التجميع. تنطبق «كايزن» أيضا على العمليات، مثل عمليات الشراء والخدمات اللوجستية (السوقيات) عبر الحدود التنظيمية إلى سلسلة التوريد. وذهبت منهجية الكايزن ليتم تطبيقها في مجال الرعاية الصحية، العلاج النفسي، التدريب والتوجيه الحياتي، والأعمال والأنشطة الحكومية والخدمات المصرفية وغيرها من الأنشطة الإنتاجية والتجارية والخدمية.

وتهدف «كايزن» إلى القضاء على الهدر؛ وذلك من خلال تحسين الخطط والبرامج المعيارية والطرائق.
تمت ممارسة طريقة «كايزن» لأول مرة في الشركات اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثرت جزئياً بمُعلِّمِي وعلماء إدارة الأعمال وإدارة الجودة الأمريكان، مثل العالم الأمريكي ديمنغ، وظهرت بصورة ملحوظة كجزء من أسلوب شركة “تويوتا”. وتعتبر شركة تويوتا رأس الحربة في تطبيق معايير ومنهجية الكايزن، وبعدها انتشرت منهجية الكايزن في جميع أنحاء العالم وقد تم تطبيقها أيضا في بيئات خارج نطاق التِجارَة والإنتاج.

وهنالك خطوات خمسة للتحسين المستمر في الكايزن وهي تحديد الهدر (الأنشطة ذات القيمة الغير مضافة؛ وهنا لابد من حذفها وإزالتها أو دمجها في نشاط أو خطوة واحده)، وذلك في العمليات أو الوقت أو الموارد. ولابد من تحديد المجالات ذات الأولوية للبدء فيها أولاً وتحسينها. ومن ثم التعرف على طرق تحليل المشكلات؛ بالإضافة إلى التعامل مع النهج التدريجي والبسيط والأسهل لعمليات التحسين المستمرة في كايزن.

الخطوات الخمسة لتحسين المستمر في بيئة العمل هي طريقة 5S skills وتسمل:

Sort, Set in order, Shine, Standardize, Sustain.
وتعني:
تصنيف- تنفيذ- تنظيف وتلميع- تنميط- تثبيت
مهارة ” الخمسة س ” أو 5S method هي استراتيجية متطورة لترتيب مكان العمل أو مكان العيش وجعل هذا التنظيم عادة ويكون بإستمرار مع وضع معايير لهذه القواعد التنظيمية. تطبق هذه التقنية من طرف اليابنيين من أجل زيادة الأرباح وكذلك من أجل تظيم الوقت والاستفادة أكثر من الزمن والمكان.

منهجية الكايزن عبارة عن استراتيجية سهلة وإبداعية تستطيع أن تخفض الهدر في الطاقة والوقت والموارد والمصاريف والمساحات؛ بحيث مهدت الطريق للشركات اليابانية لتحقيق أعلى معدلات صافي أرباح في العالم على الرغم من أنها تبيع عدد منتجات أقل من منافساتها العالمية وبجودة أعلى.

منهجية الكايزن لديها دورة نشاط تُسمي بــ حلقة ديمنغ PDCA وهي إختصار لي:
Plan → Do → Check → Act.
وترجمتها
«خطِّط ← نفِّذ ← تحقّق ← صحّح».
حلقة ديمنع يعرفها ويحفظها ويتقنها كل اليابانيون؛ ومضمونها أن لا يتم فعل أي شي بدون تخطيط، وتنفيذ المخطط، ومن ثم مراجعه الذي تم تنفيذه، ثم تصحيح الخلل، وبعدها تبدأ مرحلة التخطيط من جديد ثم التنفيذ ثم المراجعة ثم التنفيذ وهكذا تستمر هذه العمليات الأربعة؛ ولهذا سُميت بــ رباعية ديمنغ أو حلقة ديمنغ.

توجد تقنية أخرى تُستخدم بالاقتران مع «PDCA» وهي تقنية تحليل السبب الجذري» (بالإنجليزية: root cause analysis)‏ التي يسأل فيها المستخدم سؤال: «لماذا؟» خمسة مرات (الخمسة ماذآت) (5 Why)، حول الفشل او الخلل الذي حدث، مستنداً في كل مسألة لاحقة على الجواب السابق. ويكون هناك عادة سلسلة من الأسباب النابعة من نفس السبب الجذري، ويمكن تصويرها باستخدام مخطط عظم السمكة (Fishborn) (ويُسمى أيضا بــ مخطط إيشيكاوا منسوباً للعالم إيشيكاوا الذي إكتشفها).
مخطط عظم السمكة ينص على أن سبب أي مشكلة؛ لا يخرج عن الستة أسباب وسماها 6M وهي:
Manpower, Materials, Machine, Method, Measurement, Mathor nature.
وتدل على أن أسباب المشكلة إما تكون من الماكينة او الجهاز او المعدة او الأدوات التي يُعمل بها، او سبب المشكلة ناتج من العامل الذي يقوم بهذا العمل؛ بغض النظر عن أنه غفير او حرس او مهندس او دكتور، او سبب المشكلة ناتج عن طريقة التشغيل المعمول بها، او سبب المشكلة ناتج من طريقة التحليل المعمول بها، او أن يكون سبب المشكلة ناتج عن بيئة العمل الغير صحية للعاملين او الغير صحية للماكينات والمعدات.

المستشار الياباني إيماي المشهور بأعماله في «إدارة الجودة» وبخاصة «الكايزن»، كان سبباً لشهرة المصطلح «كايزن» وذلك من خلال كتابه المعروف: «كايزن: مفتاح نجاح اليابان التنافسي»
Kaizen: The Key to Japan’s Competitive Success)‏


إتخذ منهج الكايزن ثلاثه أشياء وإعتبرها بمثابة أعداء للنجاح وللإنتاج وللتطور؛ والثلاثة أعداء التي وجب القضاء عليها باللغة اليابانية هي:
Muda, Mori, Mora

– مورا” تعني غياب التنسيق وعدم الانتظام؛ ومعروف أن غياب التنسيق وعدم التنظيم يعيق التطور فلابد من محاربته؛ سواءً كان عدم تنسيق بين الأقسام الداخلية للمؤسسة او عدم التنسيق بين المؤسسة وأصحاب المصلحة الخارج المؤسسة، او عدم التنسيق بين المؤسسات فيما بينها، او عدم التنسيق بين الوزارات الحكومية فيما بينها، او عدم التنسيق بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص.

– موري” تعني الإجهاد؛ سواءً كان إجهاد للمورد البشري (العامل والموظف والغفير والمدير)، أو إجهاد للالآت والمعدات؛ سواءً كان بتشغيلها فوق طاقتها، أو عدم صيانتها في موعدها، او عدم تغيير اجزائها بعد ظهور خلل.

-مودا” تعني “الهدر”، والهدر ممكن يكون في المواد الخام، او في المنتجات النهائية المعُيبة، او هدر في العمليات والخطوات والإجراءات الإدارية العقيمة، أو هدر الوقت وهدر الطاقة؛ وحتى اللغو والكلام الغير مفيد والذي لا يضيف للعمل بشي يُعتبر هدر. وقد الله في محكم تنزيله “لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا” سورة النساء آية:١١٤.
ومن مناهج الكايزن منهج Gemba (جمبا كايزن)، وهو مصطلح يستخدمه اليابانيون، ويعني إدارة المكان والزمان؛ فــ “جمبا” في اللغة اليابانية معناها الموقع الفعلي للحدث، وهي تمثل مكان العمل؛ بغض النظر عن أن موقع العمل هو خط الإنتاج، او مخازن المواد الخام، أو مخازن المنتجات النهائية، او معرض المنتجات النهائية، او مركز خدمة العملاء، أو غيرهم.

إن نظام “جمبا كايزن” له أهداف كثيرة منها دمج المدير في بيئة العمل، بل والتصاقه بها، فهناك بعض المديرين يكتفون بمتابعة عملهم، والقيام بدورهم كقادة من خلف جدران مكاتبهم الزجاجية، والاطلاع على الأوراق والتقارير فقط؛ متصورين بذلك أنهم يتابعون ما يجرى في أروقة ودهاليز المنظمة. كما أن بعضهم لا يرى منتجات المنظمة إلا على أرفف المحلات التجارية او بعد دخولها الخدمة؛ وهذا خطأ كبير؛ لأن بعض المشاكل لا يمكن صياغتها في شكل تقارير مكتوبة ولا مسموعة ولا تقارير فيديو (صورة وصوت) ؛ بل تتطلب هذه المشاكل من المدير الذهاب إلى موقع الحدث.

وإذا أردت أن تُطبق منهجية كايزن؛ سواءً كنت فرد، او مجموعة، أو مؤسسة، او دولة بأكملها؛ فعليك أن تبدأ بنفسك أولاً، وعليك أن تكون قدوة يحتذى بك في شركتك وكل الأشخاص من حولك، وحتى المنتجات والعمليات في المنظمة التي تعمل بها ستتحسن بالمعدل الذي تتحسن أنت فيه، وبالتالي عليك تتبع مؤشرات أداءك الرائدة والمتأخرة وقراءة المزيد عن المنهجية، والبحث عن طرق لتحسين أداءك الشخصي، وتشجيع من حولك على فعل الشيء نفسه.

وأيضاً لابد من تدريب الموظفين، والموظفون هم أعظم وأهم فئة بالنسبة لمنهجية كايزن؛ حيث يشارك في منهجية كايزن كل موظف بدءاً من الإدارة العليا وصولاً إلى أصغر عامل. ولابد من تطوير قدرات فريقك من خلال التدريب واشراك أعضاء الفريق لتحديد المشاكل وحثهم على تقديم المقترحات بشكل روتيني للتغيير الإيجابي، وتقييم أفكارهم، ووضع الأفكار الجيدة موضع التنفيذ. وتذكر أيضًا أن تقدر المقترحات الأخرى، وتبين لهم سبب عدم تنفيذها؛ وإحذر ثم إحذر من تهميش مقترحات العاملين.

ولتطبيق منهجية الكايزن لابد من تحديد أفضل الخيارات؛ ولابد أن نضع في حسباننا أن كايزن ممارسة طويلة الأمد واجب الإلتزام بها، والكايزن ليست مبادرة إدارية لفترة زمنية محدودة.

ولتطبيق منهج الكايزن لابد من القياس والتحليل
بعد جمع البيانات من خلال النظر إلى نظام الإدارة وتحليلها باستخدام نموذج الخمسه لماذآت (5 Why) لماذا حتى تصل إلى السبب الجذري للمشكلة. ثم القيام بتحسين الخطوات والمكونات والعمليات المنظمة.

منهجية الكايزن اليابانية لا تعتمد على المال ولا على إستيراد الموارد من الخارج؛ وإنما تعتمد على الموارد المحلية المتاحة، ويعتمد على عنصري الإبداع والبراعة قبل مسألة المال، وهنالك قاعدة الـ 80-20؛ وهي تنص أن تفعل وتصحح وتتقن العشرين بالمائة من الأشياء لتحصل على ثمانين بالمائة من نتائج التحسين.

وتعتمد منهجية الكايزن على التركيز على الأشياء الصحيحة، وتأتي الإنجازات الكبرى من التغييرات الصغيرة والتدريجية المستمرة؛مع التخلص من العوائق والعقبات.

ولتطبيق منهجية الكايزن لابد من التوثيق والتقييم، وتحديث البيانات، وإدارة الحقائق؛ لتحديد نقاط الضعف ومجالات وفرص التحسين؛ ومن ثم توفير معيار يتيح لك قياس الأداء مقابل المعايير الحالية؛ لاتخاذ قرارات استراتيجية بشأن التحسينات المستقبلية.

ولتطبيق نظام الكايزن لابد من توحيد العمل، وتوحيد معايير تقييم الأداء لأنظمة وعمليات العمل ومن ثم السعي للارتقاء بهذه المعايير.
عند إجراء تحسينات على عملية ما، يجب توثيق العمل القياسي الجديد من أجل الحفاظ على التحسينات وإنشاء قاعدة بيانات تكون مرجع للعامل او الموظف الذي يأتي من بعدك، ولإنشاء خط أساسي جديد للتحسين، كما يقلل العمل الموحد أيضًا من الإختلاف والتباين في العمليات ويعزز الانضباط.

ولتطبيق نظام الكايزن لابد من فرض التحسينات على جميع الموظفين؛ لأن كايزن هي فلسفة تستند إلى أن التحسين مسؤولية الجميع؛ لذلك يُعد فرض التغييرات الجديدة أمرًا مهمًا لاستمرار التحسينات، وهو مفتاح للحفاظ على التحسين المستمر على المدى الطويل؛ ويجب أن لا تتوقف أبداً هذه التحسينات بعد الانتهاء من جميع الخطوات والعمليات والمشروع كله.

وهنا أُشير الي أن تطبيق منهجية كايزن طريقة سهلة للتعامل مع المشكلات في موقع العمل؛ ولكنها تتطلب بالفعل التزامًا طويل الأمد بسلسلة من الجهود الجماعية.

هذا قليل من كثير عن منهجية الكايزن اليابانية التي وضعها علماء مثل المستشار إيماي، مؤسس معهد الكايزن في اليابان، وأيضاً ساهم في وضعها بشكل كبير عالم الإدارة المخضرم الأستاذ الجامعي/ ديمنغ الملقب بــ (أبو الجودة) الذي كانت له بصمته الكبرى في تأسيس وتطبيق منهجية الكايزن اليابانية؛ وسأتطرق لباقي منهجيات الكايزن اليابانية في مقالات أخرى إن أذن الله برفع القلم.

د. الفاتح يس
أستاذ مساعد في عدد من الجامعات والكليات والمعاهد العليا وباحث مهتم بقضايا تغير المناخ والاقتصاد الأخضر والطاقات المتجددة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق